“الخُفدُودُ والفراشة”
قصّة قصيرة
بقلم نصر العماري
كانت تتضوّع بخارا دافئا وهي تمدّ أناملها الرّقيقة ممسكة بطرف منديلها الأبيض الوثير ، لتمسح قطرات الماء الممزوجة بقطرات العرق من على جيدها الورديّ .
غادرت الحمّام وهي تلفّ جسمها ببرنسها الموشّى بالأحمر والأزرق والأصفر ، في مختلف الدّرجات لتشكّل فراشات ونوّارات بديعة . أخذت ترتّب بعض خصلات شعرها الحنّائي المتفلتة من تحت غطاء رأسها . اِستلقت تُأرجح جسمها على كرسيّها الأرجوحة، ألقت برأسها إلى الخلف وهي تغطّي صدرها .
لم تكن تعتقد أن هذا العملاق يُخفي بين ضلوعه لؤلؤة كهذه.
لا تدري كيف استطاعت قدماها أن تتحمّل السّير كل هذه المسافة،
اربعة كيلومترات قطعتها دون ضجر، في عمق جبل السّرج شمال غرب مدينة سليانة. توغّلت في ثنايا ثاني أعلى قمّة جبل بالبلاد تونسية، لم تشعر بالاعياء، كان شوقها عارما يدفعها لتصل إلى أكبر لؤلوة مكنونة، مغارة من اكبر مغارات العالم ، في مدينتها المنسيّة، “مغارة عين الذّهب “…
تبسّمت ، اعجبها الاسم الفخيم، النّساء يعشقن الذّهب …
اغمضت عينيها. تململت. شعرت بالدفء والهدوء من حولها وهي تتوغل في عمق المغارة اكثر من ثلاثة كيلومترات، في سحر وبهاء ، ايُّ قصر فخيم هذا، لعلّها اسطورة من اساطير الجنّ و الملائكة.
أخذت تجوب الغرف التّسع المنفصلة عن بعضها البعض فاغرة الفم ، غير عابئة بالبلل الذي يحتويها وقد التصقت ملابسها بجسمها فظهرت مفاتنه … أخذت تقدّر ارتفاع الغرف كمن يحدث نفسه حتى بلغت العشرين مترا تقريبا في اكبرها. ولاحظت ان عمقها يغوص إلى المائة متر، …
أحسّت أن جسدها خفيفا محشوا قطنا منفوشا والماء يغمرها ، ماء ناعم الملمس كأنه من حرير ، او كأنه ماء … لعل الحياء يمنعها، وتكتفي .. انّه ماء هذا الشّريان الطّبيعي في جوف المغارة، كأنه يغذّيها، وتغذيه ينابيع جانبيّة …
كانت عيناها مفتوحة على آخرها ترفض أن يرتدّ لها طرفها وهي تتأمل التّشكيلات الصّخرية الرائعة والتّجاويف العميقة الطبيعية السّاحرة، و هي تحضن مجموعة من النّّافورات والأحواض والفسقيات المائية الصّغيرة،
توقفت عن السّير . احسّت كأنها ارتقت إلى السّماء وهي تستقبل
النّوازل والصّواعد البلّورية الخلّابة التّي يبلغ طول الواحدة منها السّتة أمتارا،
.. ياربّي، إبر من الماء المرمري البّلوري الرّخامي الذهبيّ قد تشكّلت من قطرات المياه على مرّ آلاف السّنين.
لعلّ المتر الواحد يستغرق حوالي ألف سنة ليتكوّن .. صرخت:
– هذا هو الذّهب ..
وما لبثت أن وضعت يدها على فمها كتمت صوتها . الصّراخ هنا ممنوع، ممنوع . اعتذرت بالإيماء، كانت تريد ان تكون “اقليدس” وتصرخ مثله، وتخرج عارية مثله لتنادي “يوريكا .. يوريكا”… عرفت سبب تسميتها “عين الذّهب”…
هذه الابر المائية الذهبية المتجمّدة تكوّنت على مرّ العصور.. أي جمال واي روعة.. إنها لا تقدر بذهب قارون…
شعرت بالنّعاس يأخذها بعيدا وبدأت حركة الكرسيّ تهدأ شيئا فشيئا…
وأحسّت ان المغارة مدّت لها يدها لتأخذها في رحلة غوص وتكشف لها أسرارها الجيولوجية والبيئية، ..
همست لها :
– خبراء الجيولوجيا و الكهوف منحوني لقب “ملكة الكهوف”. أنا أجمل كهف في العالم لما أحتويه من تكوينات صخريّة وخصائص جيولوجية فريدة…
لاحظت ، لا أحد يستطيع الوصول إلى الغرفة الأخيرة في المغارة إلا سباحة وزحفا وتسلّقا… العوائق الطبيعية الموجودة هنا تمثّل تحدّيا كبيرا …
كانت رغبة استكشاف هذا المكان جامحة لكنّها وحدها لا تستطيع .
وقفت وأوقفت كل حركة تصدر عنها لتسترق السّمع ، كأن صوتا خفيفا يناديها:
– ايتها الفراشة الجميلة … هل تودين أن آخذك الى الغرفة التّاسعة ؟ هل تودّين؟…
التفتت من حولها تبحث عن مصدر الصّوت.. لا احد من حولها …
ياربّي من يعرف كِنيتي في هذا المكان؟ من يناديني “فراشة”؟.
هي تعلم ان لا احد هنا غيرها في هذا العمق ..
مستوى الرّطوبة عال جدا هنا، يصعب ان تكون هنا كائنات حيّة ،
الخفافيش فقط تعيش في مدخل المغارة على طول الكيلومتر الأول فقط … وقد مرّت بها ، ولم تحدث جلبة ..
همست:
من ؟ من يناديني ؟
تساءلت دون أن ترفع صوتها هي تعلم ان بعض الدراسات
تطرّقت إلى احتمال وجود آثار للإنسان البدائي ، لكنه لن يكون هنا الآن.. مستحيل ،
واضافت :
يا ربّي ، من يناديني؟
أحست ان الهاتف يناديها من جديد: لا تخافي يا فراشتي، انا….
فقطعت عليه نداءه :
– من ؟ من يناديني بالفراشة
فأجابها الصّوت:
الخُفْدُودْ.. الخُفْدُودْ، كبير الوطاويط…
يتبع