آخر هبّاط آل حمرون.
بقلم نصرالعماري
اهلكه الحرّ ، كان غارقا في عرقه وفي التّفكير. لماذا اختار جدّه ، وجدّ جدّه ، هذا المكان بالذّات؟” وادى شيخ المعيز “.
هل ضاقت عليه ارض الله بما رحبت؟
مكان قفر ، لا يُنبت غير الحجارة .
بعض الباحثين الهواة في الرّبط بين التاريخ والجغرافيا اخبروه ان جدّه كان مُعاديا ، للباي ورفض مصادقته على الرّجوع في وعده لابن اخيه بولاية العهد بعد ان انجبت زوجتة الجديدة بعد يأس من القديمة وطول انتظار . لذلك نفاه الى هذه المنطقة الجبلية. مادخل جدّه في الباي يلد او يبقى عقيما .؟
هو لا يصدّق هذه التّرهات ..الباي حرّ، يَعِدُ متى يشاء ومن يشاء ويَرجَعُ في وعدهِ متى يُريد ..
لكن احد الشّيوخ اخبره ان جدّه كان ثريا ،فلاحا كبيرا ، من مُربّي الماعز .. اختار هذا المكان الوعر مكانا مناسبا لشياهه …
تساءل اكثر من مرّة اين هذه الثّروة وقطعان الماعز ؟
فما يعلمه من والده انه فقير ابن فقير ابن فقير . نزح الى هذه المدينة بحثا عن لقمة العيش . فلم يجد لها سبيلا غير ان يكون حمّالا…
لكن احد زملائه اخبره حين كانا يقومان بإنزال أكياس الدّقيق وترصيفها في مخازن مخبزة المطماطي ان احد بايات تونس سلّط امحاله على الرّعية لجمع المجبى . وان الصّبايحية عاثوا في الارض فسادا . كانوا يأخذون كل شيء من الأهالي بل ان “فراريج الدّجاج” لم تسلم ، فهل سيتركون المواشي وقطعان الماعز؟ …
الحرّ شديد، اليوم استهلك ثلاث قوارير من ماء برقو المُبرّد ، لم يقتنيها من حرّ ماله . بل كان يتطوّع بها في كل مرٌة زميل دراسة قديم يعترض طريقه بالصّدفة فيسلم عليه ويذكّره بأيام
المدرسة .فيقتني له قارورة ماء ويدعو له بالقوّة والصّبر …
وماذا يفعل لسعده؟ هم نجحوا وهو فشل في نيل شهادة السّيزيام .
ومن يومها يشتغل حمّالا ، او بالأحرى “هبّاطا للشكائر” أكياس السّميد او أكياس الأسمنت…
اما أكياس السّميد فلم تعد في متناوله.
لقد استأثر بإنزال البضاعة سواق الشّاحنات ومساعديهم .
لم يبق له الا أكياس الأسمنت . لكنه خائف كل الخوف ان يتجهّز اصحاب مصارف بيع مواد البناء بهذه الآلة العجيبة ذات الاذرع ، ترفع وتُنزل البضائع بكل يُسر …
الكلّ يُفكر في الاستثمار في الجهد والوقت … الا هو لا يشغل فكره الا شيء واحد ،ثروة جدّه اين ذهبت ؟
ايكون الباي حقيقة اغتصبها من أل حمرون . وبذلك كتبت عليهم الفاقة الابدية. ام هم فقراء بالوراثة ؟…
كان جالسا في مقهى عمّار ،
التى لم تعد على ملك عمّار .
العرق ينضح من كامل جسمه .طلب كأس شاي احمر من النّادل باعلى صوته واضاف: ضع فيه النّعناع يا قهواجي ، احبّ الشاي الاحمر المنعنع .
” هذا النّادل نذل لا يريد وضع قطفة كبيرة من النّعناع في الكأس”، اسرّها في نفسه وتبسّم. تذكّر ان في المرّة الفارطة احضر له “ولد دخينو” باقة النّعناع بأكملها مع كأس الشاي وقال له:” يبدو انك تحبّ النّعناع بالشاي لا الشاي بالنّعناع”.
كان يتفرّس في وجوه زملائه “الخدّامة” تساءل لماذا يُطلقون على الواحد منهم ” خدّام حزام ”
لا يدري، لعلّه من كثرة شدّ الحزام على بطونهم الخاوية . ثم مدّ يده ليتفقّد حزام سراويله الجينز ، واحكم شدّ السّيْر الجلدي على خصره النّحيل الى آخر ثقب فيه …ادخل يده الى جيب سترته واخرج ماتبقى من اجرة اليوم ،خمس قطع ذات الدينار الواحد. تفرّس فيها مليّا واعادها الى جيبه …
كاد ظهره يتسلّخ من اكياس الاسمنت لقد انزل اليوم من شاحنة “اولاد بالرّيش” ثلاث مائة كيسا بمفرده. كان الاسمنت ساخنا والجو ملتهبا ، لكنه اصرّ على انزالها بمفرده ليظفر بالاجرة كاملة . يُريد شراء تبّان بحر وقبعة ونظارات شمسية .لا يهمّ وان كانت مقلّدة … جذب الكيس النيلوني من جانبه تفقد مشترياته اخذ النظارات ووضعها على عينيه ثم نزعها سريعا وارجعها الى الكيس . هنا ليس من اللائق ان يضع مبروك آل حمرون الهباط نظارات سوداء …
…ولا فائدة من البقاء هنا. ستأكلنا التّعاسة …
مبروك، لايملك شيئا في هذه المدينة الجدباء ، الا سلامة بدنه.
لم تكن كذلك، كانت ابهى واجمل ، كبار الحيّ يؤكّدون ذلك قبل ان يرحلوا .. لم يستطيعوا تحقيق احلامهم بعد ان تعلقت بأغلبهم اتهامات تشكّك في وطنيتهم …
فاغلب اهل هذه المدينة اتهمهم النظام بالتعامل مع الاستعمار قبل الاستقلال او بالولاء لليوسفية والمعارضة بعده …
لم يبق من آل حمرون غيره رحلوا جميعا،
وعليه ان يبحث لنفسه عن حلّ. لن يبق مكتوف الايدي، مستقبله رهين انزال كيس من الاسمنت حتى يقضي نحبه ويتكفل الاجوار بشراء كفنه وحفر قبره …
لعن ابليس .واخذ رشفة طويلة من كاس الشاي .
لماذا يشحن ذهنه بهذه الافكار السّوداوية ؟ .مازال صغيرا شابا جلدا ذو طاقة تدكّ جبلا. عليه ان يستثمرها في الفرار من الموت وبناء مستقبله .
الحظ هو من يُدير له ظهره . فقط، لو تبتسم له الحياة ، غدا يُصبح “سي مبروك” …
“آه لو تخطف هذه المرّة ”
عبارة ردّدها مبروك وهو يطرق بقعر كأس الشاي على الطاولة امامه طرقا خفيفا.
ثم اضاف مع تنهيدة طويلة ” اللغة !.. اللغة! “…
هذا هو العائق الاساسي الذي تأكّد منه مبروك وسعى جاهدا الى كسره. فلم يفلت فرصة جلس فيها الى احد المتعلمين في المقهى او في السّوق الا سأله عن بعض التّعابير باللغة الاجنبية .
كيف نقول ؟ ” عجبتيني …
انت جميلة …
هل تبحثين عن صديق ؟”
وغيرها من العبارات التي يراها مبروك ضرورية للحديث مع سائحة اجنبية…
ويعمد الى كنّش ،يحمله معه، يسجّل عليه نُطقها بالحُروف العربية .
غير مهم ان وقع تحريف في نُطقها ،
الاجانب يفهمون …
لن يسامح نفسه هذه المرّة ويرتكب خطأ …
آخر شيء يفكر فيه مبروك سنّ عروسه الاجنبية . المهم عنده ان تكون من ذوات اللحم الاحمر والعيون الزرقاء والشعر الحريري الذهبي…
“آه ..لو تخطف ” ويظفر بمبتغاه ،
هذه المرّة مبروك عاقد العزم على التّعرف على اجنبية حتى وان كانت في سنّ والدته بل حتى وان كانت في سنّ جدّته . المهم عنده ان تقبل الزواج منه.
ستكون بطاقة عبوره للحياة .
كانت سيارة الاجرة تسبر مسرعة في اتجاه مدينة سوسة جوهرة الساحل التونسي وليس في ذهن مبروك الا فتاة احلامه والسفر الى اوروبا والاقامة هناك …
ماان اوقف سائق سيارة الاجرة سيارته حتى نزل مبروك وامطتى سيارة التاكسي الجماعي بكل خفة نزع سراويله والرّكاب من حوله ينظرون اليه وهو يردّد:” سامحوني، سامحوني.. لا بس شورط” ثم وضع نظاراته السّوداء على عينيه وقبعته “النايك” على رأسه.. تغير مبروك، لم يعد هباط اكياس الاسمنت .
هنا لا احد يعرفه . ما ان توقفت سيارة التاكسي الجماعي حتى نزل مسرعا وتقدم نحو احدى السيارات الرابظة لينظر الى نفسه في مرآتها العاكسة تفقد جيوب سرواله ليتأكد انها فارغة ، لفه جيدا ووضعه في اول سلة مهملات اعترضته .وانطلق نحو الشاطىء كل ما يملكه في حافظة اوراقه الصغيرة بطاقة تعريفه وبعض القطع النقدية وورقة من فئة العشرين دينارا …
لا حظ مبروك ان الحركة غير عادية
الكل يسير متعجلا في نفس اتجاه سيره ..لعل الجميع يرغب في السّباحة هذا الصباح …
وصل الى الشّارع الرئيسي لم يعد يفصله عن الشاطئ الا بعض الخطوات . لكن ازدحام المارة والناس امامه منعه من ان يواصل سيره حاول ان يتسلل بينهم لاحظ ان اعوان الامن يطوّقون المكان منعوه من ان يتقدم .
لكن مبروك لم يسكت صرخ بأعلى صوته : ” ما شي نعوم علاش تمنعوا فيّا؟”
لاحظ ان جميع الوجوه التفتت اليه.
في صمت .
لعلّهم مثله يريدون السّباحة واعوان الامن يمنعونهم …
لكن احدهم همس في اذنه :
فين تعوم ؟ لا بحر.. لا سياح..
كان الرّمل .. البحر سرقوه البارحة…
انتهت