فاس… مدينة تنام على إيقاع السكينة..
حين نبحر في أعماق الحياة في مدينة فاس نكتشف أنها ليست كأي مدينة وكأي حياة، فهي مدينة استثنائية تنبض بالسكينة، وتتنفس الهدوء القادم والمنبجس من بين جدرانها العتيقة. فكل زاوية من زواياها تحكي لك حكاية لم ترويها قط شهرزاد لشهريار، ولعل كل درب يهمس في أذنيك بسرٍّ من أسرار الأنام مروا ذات زمن من هنا، والمكان شاهد على كل صغيرة وكبيرة، وكأن فاس المدينة تسكنها بين العدوتين الأرواح لا الأجساد فقط.
في هذه المدينة تدرك، أن اللحظات لا تمر عليك عبثًا، بل هي من تُطرّزك بالحنين وتُحاك تصوراتك لها بخيوط التأمل والادراك إلى درجة تجعلك تتيه في ملكوت الله منبهرا بكل تفاصيل هذه المدينة. هي المدينة الوحيدة في عالم استحضارك لمدن العالم التي تنام على إيقاع الأذان المتصاعد من مآذنها القديمة فمتى عزمت فجرا القيام باطلالة من شرفة بيتك القديم تسمع الآذان يتقاطع ويمتزج في سماء فاس، مناديا الاحياء والأموات على أن الصلاة تناديك رافضة النوم والوقت وقت عبادة وبداية يوم جديد، هكذا تكتشف أن ثمة رائحة تأتيك من كل صوب وحدب ممتزج برائحة التاريخ والجلد والنحاس والدباغة والحدادة… هنا استحضر ساعة جاك بريل، تتوقف عقارب ساعتها لنبدأ ساعة فاس المنبعثة من آذان الصوامع وكأنني واقف عند كل حجر محفور وكل باب مزخرف، فتُذكّرني أن فاس لا تُقاس بالوقت، بل بالشعور وبالأحاسيس ما ظهر منها وما خفي.
فمتى أغرمت بلياليها الهادئة، تكتشف أن البرودة تتحول بقدرة قادر إلى دفئ، وهنا بالضبط تذوب البرودة ويتلاشى الصخب صخبر النهار طبعا، فتتمثل لك المدينة خاشعة متبتلة كدعاءٍ في السحر. ففي ليالي فاس تحس أنها تمارس عبودتها في خشوع حيث يسكن الزحام وتهمد الأصوات، وتتحول في لحظة واحدة الأزقة إلى مقامات صوفية، ولهذا خصص لها موسم سموه ليس عبثا بموسم الموسيقا الروحية، حيث تردد أصداء الذكر والسكينة والاغاني المسترجعة لزمن بل لازمنة حضارة استثنائية. تلك اللحظات تشعرك بأن المدينة عن بكرة أبيها نفسها تصلي بينما باقي مدن العالم تنام بعين واحدة ضدا على المعتاد.
ففاس بني أمي، كذب من يعتبرها مجرد موقع جغرافي في حل من الزمن كما ادعيت يا غاستون باشلار، بل مدينتنا فاس هي أصلا روح ممتدة عبر الزمان والمكان. مدينة تجمع بين العقل والروح، ولهذا تربعت على أريكة الحضارة ببهاء، ولهذا أيضا تعتبر منطقيا موطن جامعة القرويين، منارة العلم منذ قرون، اليس فيها من استقبلت علماء الأمس وعلماء الحاضر حيث كان يُدرّس الفقه والفلسفة والطب قبل أن تكتب الحضارة الحديثة فصولها؟.
لك إن شئت أن تعتبر فاس مدينة التناقض الجميل: صخب في النهار بالأسواق وغير بعيد منها وبخطوات يجاورها هدوء الزوايا، وعبق الماضي يتناغم مع همسات الحاضر في تناغم رباني خباها الله لها وحدها دون باقي مدن العالم. وإذا ما حاولنا وصفها وصفا بلاغيا فإنها مدينة تمشي في الزمن ببطء الواثق، لا تستعجل، لأنها تعرف وبجلاء أن قيمتها لا تُقاس بالسرعة، بل بالعمق وبمن فيها وما فيها.
فمن ينكر أن في فاس، نتعلم أن الجمال لا يصرخ، بل يهمس؟. وأن السكينة والطمأنينة لم تكن ولن تكون يوما فراغًا، بل فيض من نوعٍ آخر استثنائي.. وكم يعجبني أن أنعتها: مدينة تشبه صلاة هادئة… لا تُنسى.
*- الدكتور عبد السلام فزازي-المغرب