الانبناء المعرفي،، من البنائية الى البنائية الاجتماعية(فجوة او انسجام)
ا.حياة بومعزة
النظرية البنائية
(Constructivisme):
تُعـدُّ النظرية البنائية مـن أكثـر نظريات التعلم التي ينادي بها التربويون في العصر الحديث، فقـد أثرت أفكار كل من “جون ديوي 1916″، و”بياجيه 1972″، و” فيجوتسكي 1978″ في تصميم المواقـف التعليمية المختلفة، وخاصة الحقيقية منها والاجتماعية، ويؤكد أصحاب النظرية البنائية على توفيـر بيئة تعلم واقعية، يكتسب المتعلمون من خلالها المعرفـة و تكون هذه البيئة مناسبة لأهداف التعلـم، كما إن انتقـال التعلــــــم يعتمد بشكل كبير على مدى اتفــــــاق المهام التعليمية مع الأوضاع الحياتية ذات العلاقة بموضوع التعلم.
ويُعتبر “بياجيه” مؤسّس البنائية في العصر الحديث، حيث يرى أن التفكير عملية تنظيم وتكيُّف، ومن خلال هاتيـن العمليتين يكتسب الفــرد قدراته المعرفية، فالتنظيم هو الجانب البنائي من التفكير، أما التّكيُّف فهو عملية سعي الفرد لإيجاد التوازن بين ما يعرفه (خبراته) والظواهر والأحــداث التي يتفاعل معها في البيئة.
ويمكن أن نوجز أوجه الإفادة من المنظور البنائي في تحسين نمـاذج التصميم التعليمي فيما يلي:
إن التطور الذي عرفته مجالات العلم المختلفة اللسانية والسيكولوجية والتربوية صححت كثيرا من المغالطات المتعلقة بعوالم الطفل، وبخاصة تكوينه المعرفي، وطريقة تواصله مع العالم الخارجي، فقد أثبت “نوام تشومسكي” أن الطفل يمتلك بالفطرة جهازا لغويا يساعده على اكتساب اللغة، وبالتالي لا يعقل بتاتا أن نشبه ذهن الطفل بصفحة بيضاء تنطبع بالتجربة أو الخبرة فقط ، كما أثبتت الأبحاث في سيكولوجيا الطفل أن المتعلم ليس فارغا معرفيا كما يتصور الكثيرون بل إنه في سن السادسة أو السابعة يكون قد امتلك رصيدا قويا متنوعا من المعارف التي تسمح له بالتكيف بسهولة مع محيطه وبمعالجة جل المشاكل التي تواجهه.
ولم يعد مقبولا تربويا من منظور بياجيه أن نعلم الطفل بالتركيز على التلقين فقط، فلا يمكن أن نشبع الفضول المعرفي للمتعلم بتركه يجـرب كافـة موارده المعرفيـة مع مـا يقتضيـه ذلك من توفيـر
للظروف المناسبة للبحث والاشتغال الذاتي، وتعزيز حرية الاختيار” فلا يمكن أن نمارس التربية بشكل جيد دون أن نضع الطفل في موقف تعلمي، حيث يختار بنفسه ويرى ما يحصل، ويستخدم الرموز ويضع الأسئلة ويفتش عن إجاباته الخاصة، رابطا ما يجده هنا بما يجده في مكان آخر، ومقارنا اكتشافاته باكتشافات الأطفال الآخرين
إن المعارف بحسب التصور البنائي لا تبنى أو تكتسب من مجرد تكديس المعلومات في الذهن، بل تتحقق وفق سيرورة نمائية، يتم خلالها الانتقال من حالة توازن إلى حالة توازن آخر جديد ظرفي استدعاه الاختلال الذي اعترى التوازن القديم، وذلك بغية تجاوز الاضطراب وإعادة التوازن والاستقرار إلى الذهن. وليس المقصود بالتوازن ذلك الثبات أو الجمود الذي يؤدي إلى تحجر المعرفة، فالتوازن بالنسبة لبياجيه توازن دينامي متحرك يخضع لتحولات متنامية، ينتقل بموجبها الفرد من استقرار معرفي إلى آخر، وهو يعكس بذلك حقيقة تطور العمليات الذهنية عند الطفل باعتباره كائنا نمائيا يطور فكره ونظرته للأشياء والظواهر.
لقد جعل البنائيون من مفهوم “الانبناء” محور الفلسفة البنائية، التي تقر بأن المعارف تبنى من قبل الفرد بناء يعطيه الحق لأن يكون مشاركا فاعلا في مختلف الوضعيات الحياتية، بما في ذلك الوضعيات التعليمية، ويمكن أن نلخص أهم مبادئ هذه الفلسفة في:
ـ المتعلم لا يستقبل المعرفة ويتلقاها بشكل سلبي، لكنه يبنيها من خلال نشاطه ومشاركته الفعالة في عمليتي التعليم والتعلم.
ـ لكل متعلم خصائصه وأفكاره وخلفياته وخبراته الفريدة، وطريقة تعلمه الخاصـة، ومـن ثم فالبنائية تنظر إلى كل متعلم كفرد بعينه وليس متعلما عاما.
– ترى البنائية أن كلّ مجال دراسي له طرائقه الخـاصة لتعلمه، ومهمة التحليـل التعليمي فـي البنائية وصف هذه الطريقة الفريدة.
– إن الأهداف تتمثل في تحسين قدرة المتعلم على ما تعلمه عن موضوع ما ضمن سياقه البيئي في مهام حقيقية. في المقابل، لا يحقق المنظور البنائي كل أهداف التعلم على النحو المرجو، ولا ينمي كل أنواع المعرفة بالفاعلية نفسها، وأن هناك بعض المشكلات تدور حول المنظور البنائي في التعليم وتتمثل في:
ـ تفاعل المتعلم مع غيره من المتعلمين، وتبادل المعاني معهم يؤدي إلى نمو وتعديل في أبنيته المعرفية.
– صعوبة بناء كل المعرفة بواسطة المتعلم، وبخاصة بعض أنواع المعرفة التقريرية، حيث يصعب تنميتها. والتعقد المعرفي لبعض مهام التعلم، وبخاصة إذا لم يتوافر لدى المتعلم الخلفية المعرفية التي تعينه على حل مهام التعلم، غير أنه يمكن التغلب على هذه المشكلة من خلال عدة أساليب منها
– جعل مهام التعلم على درجة مقبولة من التعقيد المعرفي، فلا تكون مفرطة في تحدي عقل المتعلم.
– تزويد المتعلم بالجسور المعرفية، أي تقديم بعض المعرفة للمتعلم لتساعده على عبورالفجوة بين ما يعرف وما يسعى لمعرفته.
– تَبَني ما يسمى بصيغة ” ما بعد المعلومات المعطاة” حيث تقدم الخلفية العلمية ذات العلاقة بموضوع مهمة التعلم أولا، ثم يمارس المتعلم حل المهمة بعد ذلك، أما مشكلة التقويم، فهي من أكبر التحديات الموجهة للمنظـور البنائي، حيث لم يقدم بعد صيغة متكاملة مقبولة عن التقويم تساير إطاره الفلسفي والسيكولوجي، إذ لا يقبل البنائيون نمطي التقويم مرجعي المحك، أو معياري المحك.
البنائية الاجتماعية: (Constructivisme sociale)
غلب على نظريات التعلـم قبل البنائية الاجتماعية تصويرها المتعلم على أنه يتعامل مع المعرفة بشكل فردي ومنعزل عمن حوله، وأن التعلم شيء يحدث للمتعلم، والواقع أن المتعلم يعيش داخل مجموعة من الناس قريبين منه ويتفاعل ويتواصل معهم، وكل ما يتعلمه يتأثر بشكل أو بآخر بهم، وأغلب صور التعلم والاتصال بين البشر ما كانت لتتم لولا وجود اللغة باعتبارها وسيلة اجتماعية، والعلوم والمعارف التي تكونت على مر العصور، إنما هي منتجات اجتماعية، أنتجها العلماء وساهموا فيها من خلال صور متعددة من التفاعلات الاجتماعية مثل الحوارات والمناقشات