“ الناقد و برجه العاجي ”
مسؤولية الكلمة وأخلاقية العطاء
بقلم : الدكتور عبدالكريم الحلو
* في زمنٍ يتكاثر فيه الطامعون بالمجد الزائف،
ويُباع فيه الثناء في سوق النفاق الأدبي،
* يظهر الناقد النزيه البارع كاستثناءٍ نادرٍ يُشبه الأنبياء حين ينزلون إلى الناس بلا حواجز،
يكلّمونهم بلسانهم، ويصغون إلى نبض قلوبهم،
لا من علٍو ، بل من وسط الدائرة.
*
* فما الذي يجنيه هذا الناقد حين يختار الانخراط في المشهد الأدبي الشعبي، بكل تناقضاته وصراخه وعثراته، ويُمارس النقد – مجانًا – لكل من طلبه، شيخًا أو شابًا، فحلاً كان أم متعثّرًا في أول الطريق ؟
* السعادة هنا لا تُشترى، بل تُمنح.
* سعادة هذا الناقد النبيل لا تأتي من ثمن مقالة،
ولا من تكريم مزيّف في نادٍ ثقافيّ،
بل من شيء أعمق: الشعور بأنّه يمارس دوره الإنساني بوصفه ضمير الكلمة، وحارس معناها.
*
* إنه لا يمنّ على أحد،
بل يشارك في بناء وعي جماعيّ،
يتجاوز المصالح، ويتصل بجوهر المهمة النقدية: التفكيك من أجل الفهم، والتقييم من أجل التطوير، لا من أجل الإلغاء أو التعالي.
الهدف الإنساني:
* الناقد النزيه حين ينزل من برجه لا يفعل ذلك بدافع الضعف، بل بدافع الرحمة المعرفية.
* هو يعلم أن الشعراء ليسوا كلهم أنبياء، وأن بعضهم لا يزال في طور الاكتشاف، وأن الكلمة تحتاج من يأخذ بيدها لا من يقطعها.
* لذلك يصبح نقده دعامةً للنهضة، لا سوطًا على الظهور.
* هو لا يبحث عن المجد، بل عن أن يرى ثمرة عمله في تطور شاعرٍ شاب، أو وعي أديبٍ غافل.
الهدف الأخلاقي:
* الناقد حين يُمارس النقد بلا مقابل، فإنه يضع ضميره الأخلاقي في مرتبة أعلى من الحسابات الشخصية.
* إنه لا يُساوم، لا يُهادن، لكنه أيضًا لا يُحقّر.
* هو يمارس الصراحة، لكن بنزاهة، يفضح الرداءة، لكن لا يذبح صاحبها.
*
* لأنه يُؤمن أن الكلمة المسؤولة يمكن أن تُوقظ، لا أن تُدمّر.
الهدف الثقافي:
* حين يختار الناقد أن يكون قريبًا من جميع الأصوات – فحولًا كانوا أو مبتدئين – فهو يُعيد الاعتبار لفكرة الحراك الثقافي الحقيقي.
* الثقافة ليست نخبًا معزولة، ولا صالونات مترفة، بل هي ورشة جماعية دائمة، تحتاج إلى من يُنير الطريق، ويُصحّح المسار، ويُبقي النار مشتعلة في القلوب، لا أن يحتكرها في صومعة مغلقة.
* أما المجد الحقيقي…
* فهو أن يكتب شاعرٌ ذات يوم في سيرة تجربته:
* “ ذات مرة كتب عني ناقدٌ نزيه،
* فشعرتُ أن القصيدة قد نضجت في قلبي لأول مرة.”
ختاماً :
* الناقد الذي ينزل من برجه ليكون في متناول الجميع هو أشرف من كثير من “الفحول” الذين لا ينزلون إلّا على موائد المصالح.
* هو ذاك الذي اختار الصدق، لا التصفيق، واختار المبدأ، لا التربّح.
* هو الذي سيبقى حيًّا في ضمائر الكتّاب، ولو لم يُكرَّم على مسرح، أو يُعلَّق له وسام.
* ذلك لأنّ نقاء القلم لا يُشترى…
* بل يُولد من رحم النُبل،
* ويعيش في ظلّ الحق.
الدكتور عبدالكريم الحلو