الأصل وصل: قراءة في «الوصل بين الضفاف » للدكتور توفيق بن عامر
رانيا الحمامي
لا
في رحاب المعرفة، أين تمتد ضفاف العلوم وتتشابك مسالك المدارس المختلفة، ينبعث كتاب الدكتور توفيق بن عامر «الوصل بين الضفاف » كمنهج نقدي في الأدب والفكر والحضارة وكنور مرشد يحملنا الى وصل بين ما يظهر متباعدا لا ترابط فيه، و هو ما يخلق جسرا بين ثنائيات طال الجدال فيها ليبرهن أن في حقيقتين مؤكدتين توجد حقيقة ثالثة، مما يستوجب الى اعادة نظر معمقة للمسلمات، وهو نداء الى التفكير الحر المنبثق من الانفتاح على الفكر المقابل ونبذ الانغلاق. الوصل بين الضفاف للدكتور توفيق بن عامر هو نداء الى التعددية الفكرية وربط بين الاختلافات والتقاطعات والمواقف والآراء.
يقدم الكتاب مشروعا فكريا يقوم على رصد الثنائيات الكبرى من اجل فهم شامل: بين الأدب والنقد، والحضارة والتاريخ، والتقليد والحداثة، والعقل والروح، والمشافهة والتدوين، وغيرها من الثنائيات التي تستوجب إعادة نظرٍ معمّقة.
العنوان
اختيار عنوان الكتاب في ذاته يوصل الى القارئ ما يدعو اليه الدكتور توفيق بن عامر بكل سلاسة مع صورة شاعرية تبعث صورة ذهنية واضحة تتيح مشاهدة الضفاف – الثنائيات- في الان نفسه مع امكانية الربط بينهما – الوصل. والقابع في ضفة واحدة يحرم من مشهد اكثر شمولية واكثر جمالية ويعرف فقط جزءا من كل.
والضفاف وان كانت ايحاء الى الثنائيات الفكرية والأدبية والفلسفية والدينية والحضارية فهي أيضا ضفاف سياسية وجيوبوليتكية. فالانغلاق في قراءة الكتاب هو تضارب مع محتواه. فالعنوان ذاته ايحاء الى التدفق والانسياب من خلال صورة ذهنية للنهر المتدفق بين الضفاف .
الأبواب
يتكون الكتاب من أربعة أبواب رئيسية، كلّ منها يعكس جانبًا من جوانب الوجود الإنساني الفكري، مُقدّما للقارئ ملامح شاملة ومتعمقة لفهم تطور الفكر والإبداع عبر العصور.
في الباب الأول، في الأدب والنقد، يستعرض الكتاب مسار النقد الأدبي عبر العصور، مبرزا تفاعل النصوص مع مرجعياتها التاريخية والثقافية، مسلطا الضوء على كيفية قراءة الإبداع الأدبي، منطلقا بتقديم منهج الطرح للمقاربة المقارنية ليصل تدريجيا لطرح السؤال: لماذا و كيف نقارن؟ ثم يواصل في نفس الباب الكشف على كيفية تلقي روايات الف ليلة وليلة في الادب القديم ومن ثمة انتاج ادب مستوحى منها في الادب الحديث متناولا تجربتي طه حسين وتوفيق الحكيم في مقارنة وتحليل يبرزان الابداع والغاية وروح التجديد .
أما في الباب الثاني، الفكر النقدي، يعالج الكتاب التحليل النقدي ذاته، باحثا في تطور المفاهيم والنظريات التي صاغت أدوات التحليل لدى المفكرين العرب والمسلمين والغربيين المعاصرين، ليعرض كيف أثرت هذه الأدوات في تشكيل الفهم النقدي بين المرجعيات والنقد التاريخي والثقافي والسياسي والغايات، متخذا من عبد الله العروي انموذجا. ليؤكد الدكتور توفيق بن عامر أن » أساس التحديث هو النقد للموجود والسائد والموروث على ضوء الرؤى الحداثية وليس تكريس البنى الفكرية القديمة والسائدة. «
في الباب الثالث، في الفكر والمعتقد، يقف الكتاب عند آفاق التأويل الديني والفكر المقاصدي ودمجه مع المذاهب الصوفية معرجا على ضرورة تأويل المنهج وعلى البديل الحضاري المستقبلي ، مستحضرا الإشكاليات التي ترافق فهم النصوص المقدسة، كما يناقش منهجية المقاصد الصوفية وأثرها في بلورة القيم الروحية. وقد انطلق في ذلك من مصطلح التأويل بين القدامة والحداثة والتأويل في النص القرآني ليصل الى الفقه والفن بما يحمله من ابداع الكلمة و ابداع الصوت وابداع الصورة. فيطرح الدكتور كيف أن الفقه، في عمقه، لا يقتصر على مجرد قوانين أو نصوص دينية، بل يمكن أن يكون مصدر إلهام للفنون الحسية والبصرية، التي تعبر عن التجارب الإنسانية في صور مبتكرة، تمتزج فيها العاطفة بالعقل. ويختم الكاتب هذا الباب بسؤال جوهري: لماذا استمرت المشكلة وتأخر الحل بين الديني والسياسي؟ ليجيب اجابة العارف وهي اجابة جعلتني أستحضر اشادة الدكتور منصف بن عبد الجليل، أستاذ الحضارة في جامعة سوسة، الذي رأى أن كتاب «الوصل بين الضفاف» هو تتويج لمسيرة المؤلف العلمية، ولحجم اهتمامه ببحث التصوف خارج نطاق الاختصاص الجامعي الضيق.
وفي الباب الرابع، في الحضارة والتاريخ، يؤكد الكتاب إلى دور الحوار الحضاري والتلاقح الثقافي في إثراء مسارات الدول والمجتمعات، مبتعدا عن السرد التاريخي الجاف إلى عرض نقدي يربط بين التحولات الكبرى وتفاعلات الشعوب. فتناول مسألة المشافهة والتدوين، ثم مسألة العبودية والحرية، ملابسات قرار الغاء الرق بتونس، ليُسلط الضوء على تحولات الفكر السياسي والاجتماعي في سياقات تاريخية وثقافية متغيرة وتطوره عبر الأزمان، وعلى تأثير هذه التحولات في فهمنا للحرية والحقوق. وفي نفس الباب، تناول الكاتب مسألة التصوف بتونس من الحضور الى الفولكلور ليختم بقراءة لمؤلف : في أيام محمد الأخيرة مقدما ملاحظات نقدية ومتطرقا الى المسبق والمسقط ناقدا المعالجة الانتقائية ومبرزا مستويات التناقض.
ينتهي الكتاب بخاتمة شاملة ليؤكد ضرورة « انتاج معرفة جديدة تخرج بنا من الاطار الضيق لتقسيم المعرفة وتجزئتها…. الى التأسيس للمناهج البحثية الأفقية العابرة للاختصاصات» من اجل أجيال قادرة على الوصل بين العقلاني والروحي، بين التقنية والتصوف وبين البُعد المحلي والانفتاح العالمي لضمان توازنها الفكري والروحي، اجيال قادرة على البحث عن الحقيقة بعيدا على اليقين الجامد.
الكتاب
اكد الدكتور توفيق بن عامر أنه لم يقتصر على مجرد جمع الآراء و تجميع الحقائق أو القراءة التاريخية، بل عمد إلى بناء معاول معرفية قوية لتفكيك الظواهر وتشريحها، بهدف الكشف عن معانيها الخفية والعميقة. وقد اعتمد في ذلك على ثلاث مقاربات أساسية، الأولى هي المقارنة بين المقولات والرؤى المتباينة، حيث يعكف على فحص التراث العربي الإسلامي في مقابل التجارب الحضارية الغربية، ليرصد التفاوتات والتشابهات ويعيد النظر في صلة هذه المقولات ببعضها البعض عبر العصور. أما المقاربة الثانية، فهي النقد
الذي يتيح له النظر في النصوص والظواهر في سياقها الأصلي، مع التركيز غلى التحولات التي طرأت على معاني المفاهيم عبر الزمن، وهو ما يعكس مرونة الفكر وقدرته على التكيف مع واقع متغير. وفي المقاربة الثالثة، يذهب المؤلف إلى التأويل، الذي يبحث عن المعاني الرمزية والخفية وراء الممارسات الفكرية والروحية.
فكل باب من ابواب الكتاب هو رحلة في إعادة بناء السياقات وتفكيك المفاهيم، مما يتيح للمتلقي أن يعيد النظر في العديد من المسلمات وأن يُعيد بناء مفاهيمه من جديد.
كما ان الكتاب غني بالأمثلة منها أعلام الفكر العربي الذين جسدوا أبرز التحولات الثقافية والفكرية. ومن خلال استعراض هذه الأمثلة، يُظهر المؤلف كيف أن التراث العربي لا يُعتبر مجرد ميراث ثابت، بل يحمل في طياته بذور التجديد والتطوير. فالحفاظ على الهوية الثقافية لا يعني الاستسلام للجمود، وعلينا الاستفادة من التناقضات والأفكار المتباينة لتحفيز التفكير الحر والإبداع فلا يكون التراث عائقًا أمام الحداثة، بل محرك لها ومفتاحا للتجديد والتطوير الثقافي والفكري.
ويؤكد الدكتور توفيق بن عامر على مدى أهمية الاستفادة المتبادلة بين الأمم، مشيرا إلى تجارب الحضارات الكبرى: استلهام الثقافة الرومانية للآثار اليونانية، انصهار الثقافة العربية الإسلامية في صقلية والأندلس، حركة الترجمة والتعريب التي جلبت نماذج الأدب الفارسي والهندي واليوناني إلى قلب العالم الإسلامي.
الكتاب، في جوهره وفي قراءة أكثر انفتاحا هو دعوة إلى التسامح و الشمولية والربط بين الثقافات والأفكار وهو ما يساهم في تعزيز قيم الحوار وابتكار منهجيات تعليمية جديدة وتحفيز النقاش المجتمعي وبناء جسور حوارية، مما يجعله تواصل لرؤية الدكتور توفيق بن عامر الانسانية والتي لا تغيب من كل دراساته وكتبه.
خاتمة:
لعل إيماني بضرورة الوصل بين الثنائيات قد بدا واضحا منذ أن جمعتُ بين الهندسة والأدب، مطلقة لحرية الفكر العنان، جعلني اجد في كتاب «الوصل بين الضفاف» للدكتور توفيق بن عامر ما ينسجم مع تطلعاتي الفكرية ويغذي معارفي. ورغم ذلك اجتاحتني عند كتابتي هذه القراءة حالة من التردد بين رغبتي في تناول هذا العمل لاستحقاقه وإحساسي بأني لم أُعطه حقه كاملا، بل لعلي أكون قد اختصرت رسائله ولم أغص في روحه الفكرية كما ينبغي. ومع ذلك، أرجو أن يكون ما تناولته في هذه السطور قد سلط الضوء على النقاط الجوهرية وأيقظ فضول القارئ لاستكمال الرحلة في ضفافه.
وفي الختام، أعتبر ان كتاب الوصل بين الضفاف للدكتور توفيق بن عامر هو ثروة وثورة حقيقيتين، وهو جوهرة للمتمعن وللباحث وفي هذا وصل مع اشادة الدكتور عبد الجليل سالم، رئيس جامعة الزيتونة الأسبق الذي شبه أسلوب الدكتور توفيق ين عامر بأسلوب ابن خلدون في المقدمة الشهيرة.