الرواية القصيرة جدا بين التنظير والممارسة !
في قراءتها النقدية الفاحصة لرواية (الموت مرّتان) لكاتبها محمد البنا، المنشورة قبل أيام قليلة على صفحات هذا المنتدى العتيد، أشارت الناقدة والروائية التونسية المتميّزة الأستاذة فتحية دبش إلى مسألة نقدية في غاية الأهمية تتعلّق بـ «هويّة» هذا الكائن السردي الوليد المسمّى بـ «الرواية القصيرة جدا» التي لا تزال – كما تؤكد الناقدة – (تعاني من ارتباكات التجنيس واشتراطاته).
ومن المثير أن هذا «الارتبكاك» التجنيسي لا يمسّ فقط بعض الجوانب البنائية والجمالية لهذا النمط التجريبي من الكتابة الروائية، وإنما يطال كذلك ماهية هذا النوع الروائي وهويّته الأدبية.
ففي الوقت الذي يُعرّف فيه أغلب نقّدنا العرب المعاصرين هذا الكائن الروائي الجديد بأنه شكلٌ مختصرٌ ومكثّفٌ من السرد، يلتقط جوهر الحكاية في عدد محدود من الكلمات (لا يتجاوز العشرة آلاف ولا يقلّ عن الخمسة آلاف كلمة)، مع التركيز على الشخصيات النمطية، والإيجاز الشديد في امتدادات الفضاء الزمكاني، والتسريع في إيقاع الحكي، واختيار نهايات مباغتة، واستخدام الحذف والإضمار والتناص، مع الرهان على القارئ المشارك والمنتِج .. نجد النقد الغربي (الأمريكي- لاتيني على وجه الخصوص)، يقّدم لنا تصوّرا آخر مختلفا تماما عن المفهوم العربي لماهية «القصة القصيرة جدا»:
إن أهمّ ميزة تجنيسية يحدّدها النقد الأمريكي اللاتيني لهذا الصنف من الكتابة السردية، هي الطبيعة «التركيبية» للنص الروائي القصيرة جدا؛ فهو نصّ يتألّف من عدد من الفصول أو من القصص القصيرة جدا، لا يتجاوز النصّ الواحد منها الثلاثمائة كلمة. و يُمكن قراءة هذه الفصول أو القصص القصيرة جدا كوحدة مترابطة، أو كسلسلة من الأجزاء التي يستقلّ فيها كلّ نص وجيز بعالمه الحكائي الخاص.
ويُشترط في هذا التركيب النصّي الوجيز أن تستقلّ كلّ قصّة (أو كلّ فصل) بحكايتها المكثّفة الخاصة، غير أنه لا بد من خيط سردي ناظم يربط بين هذه القصص المستقلّة من أجل تحقيق تلك العلاقة المنشودة بين السردَيْن الطويل والقصير، حيث تُشكّل مجموع النصوص أو الفصول التي تتألّف منها الرواية خطًّا حكائيًا واحدًا يستوفي العناصر الرئيسية الثلاثة المألوفة في الحكي التقليدي (بداية، ذروة، نهاية).
ويُمكن تشكيل هذه التركيبة الرواية القصيرة جدا من موارد متنوعة، حكائية وغير حكائية (الجمع بين الحكائي والشعري والإخباري)، كما يُمكنها أن تشمل موارد أخرى غير لغوية، كالأيقونات والصور والأصوات .. وإنْ كانت هذه الإمكانية الأخيرة متاحة فقط في حالة الأعمال الروائية المنشورة رقميًّا لا ورقيًّا !
وحتى لا يظلّ الكلام نظريّا خالصا، ارتأيتُ أن أقدّم لقُرّاء هذا المنتدى الكرام، نموذجا تطبيقيا للرواية القصيرة جدا تُمثّل إلى حدّ ما هذا التصوّر النقدي الأخير. وهي رواية بعنوان (نيشان أمّي) للكاتب الكولمبي «أوسكار رودريغيز نييتو».
لا أزعم أنّ نص (نيشان أمّي) هو نموذجٌ مطلقٌ للرواية القصيرة جدا، ذلك لأنّ لهذا النمط من السرد الوجيز أشكالا وأنوعا يصعب اختزالُها في نموذج واحد. وإنما توخّيتُ أن اختار لكم هذا النص لسببين رئيسيين:
أولا= لقصر حجمه الذي يتلاءم مع إكراهات الكتابة الفايسبوكية الموسومة بالعجلة والاختزال وضيق المجال.
ثانيا= لأنه نصٌّ يقع على الحدود الفاصلة بين التصوّر النقدي العربي وبين نظيره الأمريكي- اللاتيني لمفهوم الرواية القصيرة جدا؛ فنص (نيشان أمّي) و إنْ كان يتألّف من مجموعة من الوحدات السردية المستقلّة شكليًّا، فهو في نهاية المطاف يظلّ من النصوص الروائية الوجيزة التي تنبني على وحدة الحكاية وتناميها الأفقي، بعيدا عن نماذج أخرى شديدة الاختلاف حيث تستقلّ كل حكاية مفردة بعالمها الخاص، ولا ترتبط بغيرها إلا في اتجاه عمودي لا أفقي، فضلا عن التنوع الأجناسي بين مجموع النصوص التي تشكّل وحدة روائية بالغة الإيجاز.
وإليكم نص رواية (نيشان أمّي) بترجمتي المباشرة من الإسبانية إلى العربية:
* * * * *
~ الفصل الأوّل:
من حين لآخر، كان الجنود ينتزعونني من فراشي ليتناوبوا على اغتصابي بعد أن يحشوا فمي بقطعة قماش لكتم صراخي.
لم يكن باستطاعتي إخبار أحد بما يَحدث لي؛ فقد وضعوني تحت رقابة صارمة وتهديد صريح. أعلَم أن البعض منهم يستنكر الأمر، لكن لم يكن بمقدور أحدهم أن يفعل شيئًا.
~ الفصل الثاني:
في قريتي، لم تكن لديّ صديقة. كنتُ دائمًا مُغرمًا بـ «جولييتا»؛ مُدرّستي في حصص اللغة الإسبانية. وعندما أنهيتُ دراستي الثانوية، لم أعد أراها على الإطلاق. لهذا السبب وددتُ لو أصبحتُ مُدرّسًا.
لم تكن «جولييتا» ترتاح إلى الجنود، بل كانت تمقتهم. قالت لنا ذات مرة ونحن داخل الفصل الدراسي أن لديها قصة حزينة معهم لا تستطيع إخبارنا بها .. وها قد صرتُ اليوم واحدا من هؤلاء الذين تبغضهم «جولييتا».
~ الفصل الثالث:
طالما توسّلتْ إليَّ والدتي لأدخل الجيش، لكني كنتُ أخشى الحرب والقتال. وبعد أن قبِلتُ، ها هي اليوم راضية مطمئنّة.
كنتُ ابنَها الوحيد وكلَّ ما تملك في هذا العالم. عند كلّ عطلة نهاية الأسبوع، تسافر لأكثر من ثلاث ساعات من أجل زيارتي في معسكر الكتيبة، وقد لا تجدني أحيانا هناك !
تقول عنّي بأنّي ثمرة جهدها المضني لسنوات طويلة، وبأنّي نيشانها الوحيد في هذه الحياة.
~ الفصل الرابع:
كان الرقيبُ يُكِنّ لي شيئًا من البُغض، ولم يتورّع قطّ عن معاقبتي وإذلالي ممّا يثير سخرية بقية الجنود منّي. وإذا ما رمى أحدُهم بطعامي على الأرض، يُبارد الرقيبُ إلى مُعقابتي بتنظيف وتجفيف المراحيض.
تقول والدتي دائما بأنّي ولدٌ مُهذّبٌ لطيفٌ، ولعلّ ليُونة سلوكي ورقّة طباعي هي ما دفعت بالرقيب إلى معاملتي كما لو كنتُ فتًى مُخنّثًا.
~ الفصل الخامس:
مواجهةٌ وشيكةٌ تلوح في الأفق. صرتُ أعشقُ الصدامات القتالية ويستهويني دويّ الرصاص. أودّ لو يضعوني داخل فوهة مدفع رشّاش لأفتك بكلّ أولئك اللصوص .. وأفتك كذلك بهؤلاء !
إنّه الكمين .. أنظرُ إلى رفاقي وأنا أفكّرُ كيف أضعُ داخل رأس كلّ واحد منهم رصاصة؛ فأنا أمقتُهم !
~ الفصل السادس:
أضحى خبرُ اندلاع المعركة المسلّحة مؤكّدا. إنّه يومي الموعود.
وضعوني في مقدّمة الصفّ الأمامي .. يا للهول ! بطبيعة الحال لا يُمكن للرقيب أن يخاطر بأفضل رجاله. لذلك دفع بي إلى الموت ما دمتُ رخيصا في نظره.
وصلتُ إلى ميدان المعركة حيث النيران المشتعلة والضوضاء الصاخبة. وأنا بين الحطام، عنّ لي طيفُ «جولييتا» .. لا أصدق ما تراه عيناي .. لم يخطر ببالي أبدا أن تكون من بين المقاتلين .. مذبحة فظيعة وشيكة الحصول، وأنا لا أدري كيف السبيل إلى إنقاذها !
لا أريد خسارتها .. لا !
سوف أحذّرُها كي تنجو بنفسها .. غير أنها عندما رمقتني، أفزَعَتْها رؤيتي، فرمتني برصاصة قاتلة !
~ الفصل السابع:
وأنا أتهاوى أمامها، بدا لي أنها لم تعرفني، فكان ذلك خيرا لي. صرتُ الآن أحملُ رصاصة منها بين أحشائي .. شيءٌ منها يحترق داخل جوانحي .. شعرتُ للحظة بسعادة قصوى تغمرني؛ فهي إنْ كانت قد منحتني سببًا للعيش، ها هي الآن تهبني سببًا آخر للموت.
بعد ثوانٍ قليلةٍ، اندلعتْ نيرانُ المعركة. الجنودُ يتساقطون مثل قطع «الدومينو». لم يبق في الميدان إلّا القليلون وهي تدعو الناجين منهم إلى الفرار من أرض المعركة. الجنودُ يقفزون فوق جُثّتي ويُصوِّبون فوهات بنادقهم نحو «جولييتا». ينقضّون عليها ويمزّقون ثيابها. تصيحُ بأعلى صوتها، بينما ينزفُ جسدي دمًا.
هكذا وفي عزّ انهياري .. حملتُ بندقيتي .. صوّبتُها بعناية نحو «جولييتا» .. ثمّ رميتُها بطلقة قاتلة.
لنرحل معًا !
بعد نهاية الحرب، قدّمُوا إلى والدتي نيشانًا ملفوفًا داخل رقعة راية الوطن !
– انتهى –
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رشيد الأشقر – المغرب – أبريل 2025.