تشييع
كتب وصيته.. اختلفت الأراء، توقع سقوط الأقنعة..استثقلوا حمله، لعدم تطابق البصمات٫ تعانق القطيع.. اسقط البند الثاني: الوقت كالسيف إن لم..!
شهرة بوذيبة /الجزائر
قراءة تحليلية اكاديمية لققج
“تشييع ”
من طرف الناقد والأديب التونسي
فتحي بوصيدة.
لقصة قصيرة جدا بعنوان “تَشْيِيعٌ” للكاتبة الجزائرية- شهرة بوذيبة –
النصّ: تشييع
كتب وصيته.. اختلفت الآراء، توقع سقوط الأقنعة.. استثقلوا حمله، لعدم تطابق البصمات٫ تعانق القطيع.. اسقط البند الثاني: الوقت كالسيف إن لم..!
1. العنوان والانزياح الدلالي:
“تَشْيِيع” تعني في السيّاق الحرْفي مراسم لتشييع جنازة، لكنّ النصّ يحوّلها إلى استعارة مجازية لـ”تشييع” من نوع آخر وهي القيم أو المبادئ أو حتى الحقيقة النسبية في كلّ حالاتها. والانزياح هنا يُضفي طابعًا تراجيديًّا على النص، حيث يُشيَّع شيء غير مادي غير محسوس (مثل الوصية أو الضمير).
تأتي البنية السرديّة للقصة مكثفة جدًا، تعتمد على التكثيف والانزياح اللغوي، حيث كل جملة تشكل مفارقة أو طبقة دلاليّة تخصّها.
لنبدأ من حيث الدلالة الزمنية حيث يُختزل الزّمن في لحظات سريعة (الوصية، الاختلاف، السّقوط)، مما يعكس فكرة الزمن القاسي (كما في البند الأخير).
أمّا الشخصيات فهي غير محدّدة الهوية (القطيع، “هم” في “استثقلوا حمله”)، مما يجعلها رموزًا للجماعة و المجتمع.
أما من حيث التّرميز فإنّ استعمال مصطلحات معجم المواريث في عبارة الوصية قد تمثل الحقيقة أو الإرث الأخلاقي، لكنها تتعرض للتشويه باختلاف الآراء مما يوحي بالتّصادم
فيما يلي و حتميّة الصدام بالضرورة هو سقوط الأقنعة و ظهور حقيقة النّاس الذين يخفون وجوههم الحقيقية خلف أدوار اجتماعية مزيفة. و بالتّالي إشارة إلى كشف الوجوه الحقيقية للناس حين تختفي المصلحة.
تتقدّم الكاتبة في نصّها بجملة بالعودة إلى الشخصية المغادرة معنويا لما خلّفته وصيّته ليثقل حمله كرمزية لـرفض المسؤولية وهو ما تشير إليه عبارة (“عدم تطابق البصمات) يُلمح إلى إنكار الذنب أو التهرّب من المساءلة.
و بعد هذا التهرّب تُتاح فرصة فعل العناق المرتبط بعبارة موحية بالتبعية التي هي أصل الاختلاف و الرّفض و التهرّب، رامزة للمجتمع الذي يتحرك ككتلة واحدة دون وعي، والتعانق هنا قد يكون نفاقًا أو خوفًا من التفرّد لتكشف الكاتبة هنا سقوط الأقنعة أخيرًا بعد تعانق القطيع (كشف الزيف) ليتّضح أمر الجماعة بشكل فضحه استعمال الفعل المبني للمجهول
“اُسْقِط” ربّما إشارة إلى سقوط الجثمان نفسه بعد رفض حمله، في إشارة إلى الإهانة النهائية.
و باستعمال الكاتبة للنقطتين هنا من وجهة نظري أرجّح ارتباط السقوط بعبارة “البند الثاني”
ألا وهو “الوقت كالسيف إن لم…” وجاءت كجملة مبتورة، تُحيل إلى المثل العربي “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”، لكن القطع النصّي هنا يعكس فشل الذات في مواجهة الزمن، أو إجهاض المحاولة.
و هنا تأتي المفارقة و السّخرية في أنّ الموت/التشييع لا يُشيَّع فيه الميّت، بل تُشيَّع فيه القيم (الوصيّة تُرفض، الأقنعة تسقط ليكشف عن اللامبالاة.
كذلك السّخرية من الجماعة التي تتعانق في تشييع ما دمرته بأيديها (التناقض بين الظاهر والباطن).
و يبدو لي أنّ للنصّ سياق ثقافي من حيث المعجم المستعمل معجم المواريث و ما يلحقه من تناحر حيث يعكس أزمة المسؤولية الفرديّة في مجتمع جماعي، حيث يُلغى الفرد لصالح القطيع.
و بالنّظر إلى ما سبق من تحليل للرّموز و الدّلالات فإن القصة في تأويلي لها قد تكون نقدًا لـ:
الفساد الاجتماعي: حين تتحول الوصية (القانون/الأخلاق) إلى أداة يُتلاعب بها.
ثمّ الموت الرّمزي إنّما هو موت الضمير الجمعي تحت وطأة المصالح.
عبر سلطة الزمن كإشارة إلى أن التردّد أو التأجيل (“إن لم…”) يؤدي إلى الهزيمة.
أمّا النّاحية الأسلوبية للقصّة فنجد الانزياح، مثل “تعانق القطيع” الانزياح عن منطق العقل، فالقطيع لا يتعانق، بل يُذعن.
و الاقتضاب ليتمّ حذف التفاصيل ليترك أثرًا صادمًا (كلمة “اسقط” تُنهي المشهد بقسوة).
و التناص باستعمال المثل العربي عن الوقت والسيف.
و مُحصّلة تحليلي للققج “تَشْيِيعٌ” هو نص ساخر بامتياز، سخرية من الطّقوس الاجتماعية الفارغة، حيث يُدفن ليس الجسد، بل العدل والإرادة الفردية. النص يُجسّد صراعًا بين الفاعل (صاحب الوصية) والمنفعل (القطيع)، وينتهي بانتصار اللامبالاة. اللّغة الشاعرية والمكثفة تحوّل المشهد إلى استعارة وجودية عن هشاشة الإنسان أمام الزمن والجماعة.
تقديري لحرفك البهي أستاذة شهرة بوذيبة نصّ لافت.. تمنياتي لك بمزيد التّألق
فتحي بوصيدة/تونس