قراءة نقدية:” القصيدة والمعادلة”
القصيدة:” مما أجد وأسمع أخبارا لها قلبي يوجع”
الشاعر كمال الدريدي (تونس)
الناقدة جليلة المازني( تونس)
القراءة النقدية: “القصيدة والمعادلة”
التصدير: قال تعالى “وما ربّك بظلام للعبيد”(فصلت 46).
” وما للظالمين من أنصار”(المائدة 72)/ (آل عمران192)/ (البقرة 270) .
أ- العنوان:” مما أجد وأسمع أخبارا لها قلبي يوجع”
استخدم الشاعر كمال الدريدي أسلوبا انزياحيا تركيبيا قائما على التقديم والتأخير فقدم المفعول به (ممّا) لتسليط الضوء عمّا يجد ويسمع من أخبار توجع قلبه.
هذه الاخبار الموجعة مأتاها ممّا يعيشه(أجد) وما يسمعه(أسمع) .
انهما مصدران قد يدعم الواحد منهما الثاني.
ترى ماذا يجد وماذا يسمع من أخبار موجعة؟
ب – التحليل:
استخدم الشاعر تقنية المعادلة ليقنع القارئ بما يجد وما يسمع من أخبار موجعة.
والمعادلة الرياضية تنص على مساواة تعبيريْن رياضييْن عن طريق علامة التساوي(=) حسب العالم الرياضي روبرت غيكوغد (1557)(ويكيبيديا).
والشاعر استخدم المعادلة بين العنوان ومتن القصيدة .
وباعتبار ان العنوان هو محتوى مصغر للنص(القصيدة) سيفسره الشاعر بما يعادله في متن القصيدة معتمدا علامة يساوي(=).
ان هذه المعادلة تتمثل في أن من كان مصدرا وسببا في أوجاع قلب الشاعر سيلقى حسابه من الله وكأني بالشاعر يستحضر في ذهنه الآية الكريمة (8) من سورة الزلزلة ” ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره” .
والآية الكريمة في حد ذاتها معادلة في عدالة الله الذي ساوى وعادل بين مقدار الشر وحسابه.
يقول شاعرنا وقد كان ذا مرجعية دينية في معادلته:
يا ظالما ان الله سائلك
عن ظلمك
وانت جاث على ركبك
من الرعب حالك مائل.
ان قول الشاعر محكوم بثنائية الظالم والمظلوم
فأي ظلم يتحدث عنه الشاعر؟
– هل هو الظلم العاطفي؟
– هل هو الظلم الاجتماعي؟
– هل هو الظلم السياسي؟
– هل هو الظلم الثقافي؟
– هل هو الظلم بكل أنواعه في المطلق؟
لعلنا نقف على ذلك في صلب التحليل.
ان الشاعر منذ البداية يستشرف ما سيلحق الظالم من رعب وذل وخوف عند محاسبة الله له.
وفي هذا الاطار يعمد الشاعر في نبرة مُتهكمة وعبر أسلوب بديعي قائم على الطباق (الظالم/ المظلوم – غافلا/ عين المظلوم) ليرسم للقارئ مقابلة معنوية وهي مفارقة بين الظالم والمظلوم:
فلئن كان الظالم غير مبال وغير مكترث بما اقترفه لإلحَاق الأذى بالمظلوم فإن هذا المظلوم يبقى يقظا لإمطار الظالم بوابل من الدعاء عليه.
وهل أكثر من أن الشاعر قد استخدم تراسل الحواس ليجعل حاسة البصر تقوم مقام حاسة النطق للدعاء على الظالم بالشر.
والشاعر هنا يتناص مع ما قاله علي بن أبي طالب(رضي الله عنه):
لا تظلمنّ اذا ما كنتَ مُقتدرا// فالظلم مرتعه يفضي الى الندم
تنام عيْنك والمظلوم مُنتبه// يدعو عليك وعيْن الله لم تنم
ويقول تعالى في سورة ابراهيم (الآية 42:” ولاتحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار”.
ويقول تعالى في سورة الشعراء الآية (227)” وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”.
وعن ابن عباس أن الرسول (عليه الصلاة والسلام)قال:” اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب يرفعها الله فوق الغمام ويقول وعزتي وجلالي لأنْصُرنك ولو بعد حين”(رواه البخاري).
والحساب في كل شيء مؤجل الى يوم القيامة ما عدا ظلم الناس فلابد أن يقتصّ الله جل جلاله من الظالم في الحياة الدنيا حتى يعتدل ميزان الحياة ويعرف الناس ان الظلم له قصاص دنيوي بجانب قصاص الآخرة.
وفي هذا الاطار من الدعم بالنص القرآني و السنة فإن الله يمهل ولا يهمل الظالم
يقول الشاعر كمال الدريدي:
يرى الله الظالم… ويمهله
لعل رشده عن الغي يبعده
فاذا ما طاب له الظلم وجاوره
جاءته من الله واقعة تدمعه
وفي هذا السياق يعمد الشاعر الى أسلوب التضمين ليُضمّن القصيدة صدْرا من بيت المتنبي :”لا تشتري العبد الا والعصا معه”
وعمد الشاعر الى التضمين عبر أسلوب بديعي قائم على التورية التي تحمل معنيين:
– معنى قريبا لا يقصده الشاعر فهو لا يقصد من هذا البيت هجاء كما هجا المتنبي كافور الاخشيدي لأن في ذلك خطاب كراهية.
– معنى بعيدا يقصده الشاعر:لعله يقصد بالعبد عبدا من عباد الله والعصا هي سلاح له ضد الظالم والتي تنقلب عليه حية تنفث فيه سُمّها. فيقول:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
ان العصا بظلمك ان ترفعها
حيّة.
سمّها في جسمك ينخر.
ويخرج الشاعر بحكمة أن الظالم لن يعيش سعيدا بل تطول مرارة ليله بسبب ظلمه فيقول:
ما عاش سعيد بظلمه..ويسهر
ليل الظالم مر مذاقه وعمره
أطول
والشاعر يتناص مع عنترة في وصف طعم الظلم حين يقول:
“وظلمي باسل مرّ مذاقته كطعم العلقم”
ان الشاعر كمال الدريدي يُسِرّ الوجع من ظاهرة الظلم وكأنه وجع يعقوب بسبب الظلم الذي ألحق بابنه النبي يوسف.
ان الشاعر يندد بظاهرة الظلم وفق مرجعيات ثلاث:
– المرجعية الدينية:( يا ظالما ان الله سائلك عن ظلمك/ فاذا ما طاب له الظلم وجاوره جاءته من الله واقعة تدمعه )
– المرجعية الشعبية بالتلميح للمثل الشعبي القائل “الله يمهل ولا يهمل”(يرى الله الظالم …ويمهله)
– المرجعية الأدبية: التناص مع صدر بيت شعري للمتنبي(لا تشتري العبد الاوالعصا معه/ والتناص مع مفهوم لطعم الظلم عند عنترة(ليل الظالم مرّ مذاقه)
ويختم الشاعر قصيدته ليجعل السلطة السياسية محكومة بمبدإ التداول في السلطة وهي حقيقة. وهذه الدنيا لا تدوم على حال واحدة فهي في إقبال وإدبار وكما قيل يوم لك ويوم عليك .فيقول:
قس الأمور يا عبد.. فالأيام دول
وأنت بعدها ذليل
وترحل=
وُيقرّ بذلك أن الظلم الذي يوجع قلبه هو ظلم الساسة والسياسيين وهو في ذلك ودعما لمرجعيته الأدبية يتناص مع قول أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس:
لكل شيء إذا ما تمّ نقصان// فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دُوَل // ومن سرّه زمن ساءته أزمان
وبذلك يدعم المعادلة بين الاستهلال والقفلة: الظلم (يا ظالما) = الرحيل(ترحل)
ومن وجهة نظر ميتا شعرية فالشاعر يهْدم ظاهرة الظلم ليؤسس لمبدإ العدل.
والتداول على السلطة من أسس العدل.
سلم قلم المبدع كمال الدريدي الذي يهدم ظاهرة الظلم ليؤسس للعدل الذي هو أساس العمران على حدّ قول ابن خلدون.
بتاريخ 26/ 05/ 2025
=== القصيدة ===
ممّا أجد واسمعُ
اخبارا بها قلبي يوجع :
ياظالما إن الله سائلك
عن ظلمك
وأنت جاث على ركبك
قلبك من الرعب مائلُ
ينام الظالم غافلا
وعين المظلوم تمطره
بالدعاء وابلُ
يرى الله الظالم… ويمهلهُ
لعل رشده عن الغيّ يبعدهُ
فإذا ماطاب له الظلم وجاورهُ
جاءته من الله واقعة تدمغهُ
~..لاتشتر العبد إلا والعصا معه …~
فيا صاحب العصا ويلك اقصر
لعل العصا .بظلمك حيّة
سمّها في جسمك ينخُرْ
ما عاش سعيدٌ بظلمه ..ويسهرْ
ليل الظالم مرٌّ مذاقه وعمرهُ
اطولُ
قِسِ الأمور يا عبدُ فالأيّام دولٌ
وأنت ذليلٌ
وترحلُ