مقاربة قرائية في نص للمبدعة زبيدة محمد العرفاوي
النّص المشتغل عليه
صُوَر
الصّورة الخامسة ــ العنوان مؤخّر
مسترخيةً، بعد حمّام ساخن، تسحب من حين لآخر نفسا عميقا وتدفع. تقف لتمشيَ وتجيء قليلا على أرض الغرفة الصغيرة. وتتنفّس. تطلق آهاتٍ خفيفةً بين الوقت والوقت، وتتنفّس. تقف ممسكةً بعامود السّرير، تعقد حاجبيها وتعضّ على شفتيها، هنيهة، وتنفرج أساريرها، تجلس على حافّة السرير، تسحب نفسا عميقا ثمّ تدفع. تسحبُ جسدها الثقيل إلى وسط السّرير، تستند إلى ظهره، وبمنشفة مبلّلة بماء دافئ تكمّد أسفل بطنها. تغمسها من جديد في الماء الدافئ، تنزلق قليلا على الفراش و تضعها تحت ظهرها، تشعر بالاسترخاء. لبعض الوقت، مغمضة العينين، تتنفّس بعمق وهدوء وتدفع قليلا، ينعقد حاجباها وتختفي انطلاقة وجهها.تبرد المنشفة تحت ظهرها، ترفع نفسها قليلا إلى الخلف، تصير في وضعية الجلوس، تضع وسادة وراء ظهرها وتسترخي. تنتفض من حين لآخر كأنّ إبرا تخزها، تمدّ يدها إلى قارورة الماء قربها و تشرب. تستدير نصف استدارة لتصير وسط السّرير وساقاها متدلّيتين أسفله، تعتمد على ذراعيها، تقبض على اللّحاف وتسحب نفسا عميقا ثمّ تطلقه رافعةً رأسها إلى السّماء. تتواتر التقلّصات و يشتدّ الألم. يذهب ليعود أقوى. تقصر الفترات بين الانقباض و الانبساط. وهي تشدّ عضلات بطنها، تدفع ثمّ تأخذ نفسا عميقا وتستعدّ للانقباض التّالي. تشعر بالعنق يتّسع شيئا فشيئا، والجسم داخل جسمها يندفع تدريجيّا نحو الخارج. تقف، تمشي، تجلس، تتنفّس، والعنق يتّسع. يتصبّب العرق من جبينها وهي تشعر بالرّأس يقترب من فتحة العنق. يمزّقها الألم فتعضّ على شفتيها وتبتلع صرختها. تحاول الحفاظ على هدوئها، تستجمع كلّ قوّتها وتدفع، يقترب الرّأس أكثر واتّساع العنق يكاد يكتمل. تسترخي لتسحب نفسا جديدا وتشدّ عضلات بطنها ثمّ تدفع، يطلّ الرّأس، تشعر بالجسم محبوسا في العنق، تحسّ باختناق، يزرقّ وجهها ثمّ يسودّ، ترتخي نظرتها، يتصبّب العرق من وجهها ويقطر على لحاف السرير أمامها، يبرد جسمها وتكاد تسقط ثمّ تنتفض. تَثبُت في وقفتها فاتحة ساقيها، تقوّس ظهرها، ترتكز بيديها على طرفيْ السرير، تمدّ رأسها في اتجاه وسط السرير تكاد تنكبّ فوقه، تسحب نفسا عميقا، وتدفع، يخرج الرّأس كاملا. لا تنتظرُ، تسحب نفسا آخر ثمّ تصرخ وهي تدفع الدفعة الأخيرة، تدوّي الصّرخة في أرجاء الغرفة الصّغيرة،ينزلق الجسم كسمكة، يقع على السّريرأمامها.
فمُها مفتوح وماءٌ أصفر ينسكب منه. العرق يقطر من وجهها وكامل جسمها.تمدّ يدها إلى فمها، تشدّ حبل السرّة فينقطع. تشعر بفراغ عجيب تصحبه راحة جسدية وهدوء تامّ.
تأخذ فوطة، تمسح وجهها وفمها وشفتيها. تقف صلبة متماسكة. تنظر إليه مكوّما أمامها فوق السّرير، وتبكي.
لم تلدْهُ. تقيّأته.
زبيدة ــ 15/ 03/ 2016
____________________________________________________________
توقّفت طويلا عند هذا النّص وهو من مجموعة نصوص لزبيدة محمد العرفاوي….وقد بدا لي محكوما بجرأة مبدعة ممتلئة بذاتها وأنوثتها منعتقة من كلّ المعيقات والاغلال محتفية دوما بجسدها تحوّل المكمون فيه والمخفيّ إلى مشروع أبداعيّ تشتغل عليه …
فمالبث حرفها يفصح ويرفض الكتمان ليعريّ بشكل صريح هذا الجسد الذي اعتبروه عورة المرأة.
ففي هذه الصّورة الخامسة من سلسلة نصوصها تدنوّ منه رجوعا للأصل وبحثا عن البدء.
كتبته بوعي مأتاه الشعور بذاتها وتركيبتها وهي التي خصّها اللّه سبحانه وتعالى بوظيفة الإنجاب والخصب متكئة على الإسترجاع والتّذكّر والإستحضار لعمليّة لم تعشها واقعا …
الولادة كحدث هامّ يحصل نتيجة لصلة جنسيّة شرعيّة أو غير شرعيّة بين المراة والرّجل
ولعلّ ما يُلفتُ الإتباه في هذا النّص ويثير الإستغراب مباشرة المرأة مخاضها وولادتها بنفسها في غياب ما اصطلح بتسميتها (القابلة )التي تساعدها علىوضع مولودها ….وقد رأيتُها من منظوري الخاصّ كمتلقيّة الصّورة المشتهاة للمرأة في نصوص مبدعتنا زبيدة التي ترفض أن تكون في هذا الحدث الجميل ضعيفة تثير التّعاطف وقد أعلتها الأمومة الى أعلى مراتب التّكريم والإجلال …أوليست الولادة متعة ولذّة ومنّة اللّه عليها رغم ما يصاحبها من ألم ومخاطر.
كما يقود التّوغّل في النّص الى ملاحظات واستنتاجات أهمّها
_احتكام الكاتبة على امكانات تعبيرية دقيقة تجسّد الحدث في مراحله
من موجات تقلص تساعد على تحريك المولود الى اسفل العنق (مسترخية بعد حمام ساخن …تسحب نفسا …تدفع…تقف لتمشي وتجيئ …تتنفس …تطلق آهات خفيفة تكمد اسفل بطنها….تنزلق قليلا …
ألى مستويات شدّة المخاض واتسّاع العنق(ينعقد حاجباها …تختفي انطلاقة وجهها…تصير في وضعية الجلوس…تنتفض من حين لآخر..كأن ابرا تخزها….)
تستعدّ للأنقباض….تشعر بالعنق يتسّع….والجسم داخل جسمها يندفع …تقف …تمشي تجلس …تتنفستشعر بالراس يقترب)الى آخر الكلام .
إلى نزول المولود..وخروج المشيمة
فالوصف لحالة المرأة عند عملية المخاض يمكّن المتلقي والقارئ للنّص من تمثّلها وتصوّرها بفضل حسن تخيّر الافعال وقوّتها في التّبليغ .
وأظنّها عند (قارئ ذكر) تكون أوضح رغم الإختلاف الفيزيولوجي المؤدي للجهل بهذا الحدث وما يصحبه…وهو ما يؤكد قدرة الذات الكاتبة بحكم ادراكها لوظائف جسدها واعتدادها بأسراره وعوالمه وتوقها الدّائم وتحرّرها في الحكْي عنه بما يمكن للغيرسيّما الرّجل رصده وادراك حميميته خارج الإنكفاء والكمون والتّكتّم …
وقد وفّقت زبيدة في مسك شخصيّة هذا النّص بحسن تدرج بحركاتها الى حدّ بلوغ الذّروة ملتزمة بالجمل الفعلية القصيرة جمل رشيقة متقنة تأخذنا الى مكامن الوجع في المخاض وهو ما جعل المتلقي ينصهر فيها بكلّ إدراكاته الحسيّة حتّى كأنّ المخاض عاودني عند القراءة
تبقى نهاية المخاض مؤلمة فيبدو أنّ المولود لم تلده أمّه بل تقيّأته…
نهاية مفتوحة على شتّى التّأويلات …وليّفتح اللّه مع كلّ ولادة باب الجنّة يا زبيدة أو لم يقولوا أنّ الولادة تمحو الذّنوب جميعا
القديرة زبيدة
أهنئك بطاقتك في السّرد وما تخزّن في وجدانك الوافر الرّاقي من بوح وأشيد بجرأتك في الكتابة عن عوالم المرأة وما يلفّ جسدها من أسرار وخوافي ….وليبق الإبداع في كتاباتك بوحاا وافصاحا وتعرّيّا من كلّ مكبلات الرّوح والجسد…
صديقتك منوبية الغضباني
ا