الذئب والناقد: في ضراوة الفهم وخيانة الطمأنينة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في كل نصّ مكتوب، ثمّة صوتٌ خفيّ يُنادي على من يسمعه دون أن يُعلن نفسه. ليس القارئ العادي من يسمعه، ولا المعلّق، ولا حتى المنهجي الصارم. وحده الناقد الحقيقي يلتقط ذلك النداء، لأنّه يعيش في اللغة كما يعيش الذئب في الغابة كمتربّص.
الذئب لا يرى الغابة مشهدًا، انما خريطة متغيرة للروائح، للفرائس، للمخاطر، للفراغات التي قد تتحول إلى فخاخ. وكذلك الناقد، لا يرى النص بوصفه بنية مكتملة أو منظومة مغلقة، بل كـ “أرض حادثة” قابلة للانهيار في أية لحظة. الناقد يقرأ كما يتحرك الذئب: ببطء، بحدس، بمراقبة الصمت أكثر من الصوت. اشد حواس الذئب غفلة الوقت عن الوقت كذلك الناقد أشد حواسه غفلة النص عن النص
إن ما يربط الناقد بالذئب ليس الشراسة، بل العزلة. فالذئب لا يعمل ضمن قطيع، لأنه لا يثق بالكثرة. والناقد الحقيقي لا يجد موضعه في إجماع القرّاء أو المؤسسات أو الصيحات النظرية. هو دائمًا خارج السياج، لأن مهمته تكمن بفضح ما يتمّ تمريره باسم الفهم.
الناقد حين يكون ذئبًا، لا يعني أنه هائج أو عشوائي، هو لا يثق بغير حواسه. لا يثق بنظرية إن لم تمتحنها التجربة. لا يكتفي بما يبدو مفهومًا، همه البحث عن التشويش، عن الالتواء، عن ذلك الموضع الذي “أراد النصّ أن يخفيه”.
تمامًا كما لا يهاجم الذئب الفريسة من الأمام، بل من موضعٍ مائل، يأتي النقد الحقيقي لا من قلب النظرية، بل من الهامش، من مكان لا تراه الفكرة إلا حين تُؤذى. وهذا ما يُشبه الذئب بالناقد: كلاهما لا يعمل في الضوء، ولا يُربّي جمهوره، ولا يشرح. كلاهما يختبر العالم من داخله، بالصمت، بالحذر، وبالانقضاض حين يحين الوقت.
إن النقد، في جوهره هو افتراس الطمأنينة، قلب المشهد وتخليص ذائقة الزمن من الأشباه كي يصحو المذاق على حواس بريئة
ولأن اللغة تتعثر، وتحتاج لمن يرافق سقوطها. كان الناقد ضرورة تكوينية
حيدر الأديب