قراءة وتاويل لومضة شعرية للشاعر كرار السعد
حين تومئ الشمس للتوابيت
رياض عبد الواحد
المقدمة:
في زمن تتكاثر فيه الكتابات الوجيزة وتتضاءل فيها الدلالات، يبرز بعض الكتّاب ممن يختزلون في ومضة واحدة ما تعجز عن قوله القصائد الطوال. ومن هؤلاء الشاعر كرّار السّعد، الذي قدّم في نصّه: “عبّاد الشمس” ومضة تتشابك فيها جدليات الوجود: الحياة والموت، النور والظلمة، الزرع والحصاد. إن هذه الومضة، على الرغم من قصرها، تنطوي على طاقة رمزية وفكرية تستدعي قراءة تحليلية تتجاوز الظاهر اللفظي إلى الباطن التأويلي، قراءة تُنقّب في طبقات الصورة لا في سطح اللغة، وتنفتح على الإيحاء لا على المباشرة.
البنية الصورية والرمزية
“أنا مثل وردة عبّاد الشمس”
الافتتاح بهذه الصورة الاستعارية يقدّم الشاعر باعتباره كائناً نباتياً مشدوداً إلى النور، إلى الخارج، إلى مصدر الحياة. غير أن “عبّاد الشمس” هنا لا يُقرأ بوصفه نباتاً فحسب، بل بوصفه رمزاً للتماهي مع الحقيقة المتغيّرة، أي الشمس، التي لا تلبث أن تدير عنقها، فتغيّر وجهتها. الشاعر لا يقول “أنا وردة” بل “مثل وردة”، ما يمنحنا تردداً هويّاتياً بين الإنسان والنبات، بين التأمل والوجود.
وفي قوله “مقبرة ممتلئة ببذور الحياة”
تمثل هذه الصورة المفارقة المركزية في النص. فالمقبرة، بوصفها مكاناً للموت، تُقدَّم هنا كونها خزّاناً للحياة، بواسطة “البذور”.
إن البذور هنا لا تعني فقط الحياة المستقبلية، بل تعني الإمكان، الاحتمال، الخصوبة الكامنة في الموت ذاته. نحن إزاء انعكاس تام للثنائية التقليدية: فالموت ليس نهاية بل بداية، والمقبرة ليست خاتمة بل مهد.
وفي قوله :”كلما تلوي الشمسُ عنقَها”
هنا تدخل “الشمس” بوصفها فاعلاً درامياً في النص، كائنٌ يملك عنقاً يلتوي، أي أنها ليست جسماً سماوياً ثابتاً، بل كائنٌ عضويّ يتلوّى، يتحرّك، يتفاعل. التواء العنق يوحي بالتعب، بالإعراض، بالابتعاد عن الحياة. لكن هذا الابتعاد لا يعني مواتاً، بل تحوّلاً.
“تصبح التوابيت أنضج”
نصل هنا إلى الذروة الدلالية. النضج عادةً يرتبط بالثمار، بالحياة، بالنمو. أما أن توصف “التوابيت” بالنضج، فهو انقلاب دلالي عميق. النضج هنا لا يعني التحلّل، بل يعني اكتمال معنى الموت، أو اكتمال دورة الحياة. فالتابوت لا يعود مجرّد أداة دفن، بل يصبح حاضناً للولادة، مكاناً لنضج البذور التي سبقت الإشارة إليها.
البنية الفلسفية والوجودية:
الومضة مبنية على أسسٍ من الرؤية الوجودية المتشائمة التي تضيء جوانب الأمل. فالموت هنا ليس موتاً، بل تحوّل. نحن لسنا إزاء رثاء بل إزاء احتفاء سرّي بدورة الحياة. الشمس، التي قد تبتعد، لا تُنهي الحياة بل تبدأ طورها الآخر. والتابوت، الذي عادةً ما يقفل الجسد، ينفتح هنا على ولادة رمزية، على “نضج” غير جسدي.
نلحظ كذلك تأثيرًا عميقًا لفكر التحوّلات في هذه الومضة، إذ لا يوجد شيء ثابت: النبات إنسان، المقبرة بستان، التابوت رحم، الشمس أمٌ تتعب. كل الكائنات هنا تتغيّر، تتحوّل، تتبادل الأدوار.
الاقتصاد اللغوي والانفجار الدلالي:
ميزة هذه الومضة أنها اقتصادية في لغتها إلى حد كبير، إلا أنها غنية بالدلالات. لا كلمة زائدة، ولا جملة فضفاضة. كل لفظة مشحونة بطاقة رمزية، بدءاً من “أنا” الذي يؤنسن النص، مروراً بـ”عبّاد الشمس” الذي يحيل إلى التبعية للنور، وانتهاءً بـ”التوابيت” و”النضج” اللذين يخلقان صدمة تأويلية تفتح الباب لتأملات لا تنتهي
الخاتمة:
إن ومضة كرّار السّعد هي تجربة شعرية وفكرية نادرة، تُثبت أن الشعر لا يُقاس بطوله بل بعمقه، وأن المعاني الكبرى تسكن أحيانًا في السطور القصيرة. هي ومضة تقيم في نقطة تماسّ بين الحياة والموت، وتقدّم للمتلقي تجربة تأملية مكثّفة في الوجود، تُعيد تعريف المفاهيم الثابتة، وتحرّر اللغة من أسر المعجم التقليدي. بهذه الكثافة، وبهذه الجرأة في تشويه الصور المألوفة لإنتاج معانٍ جديدة، يقدّم لنا الشاعر نصًا يمكن أن نُعيد قراءته عشرات المرات دون أن تنفد أسراره.
النص الاصلي
أنا مثل وردة عبـاد الشمس
مقبرة ممتلئة ببذور الحياة
كلما تلـوي الشمـسُ عنقَهــا
تصبــح التـوابيــتُ أنضــج