قراءة في نص ( ناي ليلة عاصفة ) للشاعر حسين السياب |
سعيدة بركاتي
ناقدة | تونسية
يخامر الذهن سؤال حول عنوان النص: هل يتنزل ضمن الأسئلة العادية أم سؤالا فلسفيا؟ باعتباره عتبة النص، فالناي هذه الآلة لم تكن يوما أو نادرا ما كانت صحبة الألحان الصاخبة أو الألحان التي تبعث الفرح في نفس الإنسان، فكيف تكون “صحبة لليلة عاصفة؟..
حدد الشاعر زمن النص “الليل”، ووصفه بليلة عاصفة، أما المكان كان متنوعا أوله عالم يتداعى في رأسه، مما يجعلنا حاضرين معه في رحى هذه العاصفة التي كلما مرت بمكان إلا وأخذت معها كل ما يعترضها فتشوه وجهه ويضيع الزمان لتبقى الخطوة متسمرة وثابتة رغم دوران عقارب ساعته.
يقول السياب: العالم يتداعى في رأسي، فهل هو من أثر العاصفة وصوتها والدهشة والألم العظيم؟ أم توجد عوالم أخرى استفزت فكر الشاعر فتداعى العالم أمامه؟..
نحن مع نص وجودي مدجج بالانزياحات والمعاني المخفية تحت سطوره، كانا فيه الشاعر والطبيعة يتصارعان وعاصفة الليل في فضاء شاسع كبير ضاع فيه الكاتب حد غياب ملامحه “الريح القديمة تصقل وجهي” ، فلفظ الريح جاء بصيغة المفرد للمرة الثانية تُذكر في النص، وإن مرت هذه الريح فقد تغير وتشوه المكان كوجه الشاعر الذي تعرت ملامحه حين مرت به وصقلته. نحن مع نص لجنون الطبيعة من الأرض وما فيها صعودا إلى السماء وردة فعلها..
مسحة الحزن ولونه في النص رهيبة بدءا من: الحزن يقلم أظافري/ قضم الليل صوت الفجر/ يتساقط حليب أسود/ مقبرة الأحياء/ يدندن بترنيمة كنائسية..
عادة السماء تنزل ماءا زلالا يروي الأرض فيحيي تربتها ويبعث في كل نفس معنى جديدا للحياة، سماء النص اكتست من الحزن ثوبا فضفاضا وطويلا تدلى منها صدور أمهات ويتساقط حليب أسود: بشاعة الصورة حد سواد الحليب في صدور الأمهات حزنا على فناء الطفولة، صورة واقع لعاصفة من نوع ثان “عاصفة قنابل وحرب”، لم ينجو أحد إلى آخر العناقيد في مقبرة الحياة.. عاصفة عاتية بأنياب ريح شرسة لا يعرف قلبها الرحمة لا لشيء إلا لأنها من صنع البشر.
بقلم التأويل والمباشر هذه البقعة في حالة حرب دمارها شامل عدوها يهوى أن يسويها وسطح البحر حد غياب معاليمها و تفاصيلها و طمس هوية أهلها “صارت مقبرة للأحياء”، إن بقي فيها نفس، نحن في مشهد طيور أبابيل تنقر رؤوس الصبيان كقناصي “رؤوس البشر”، هل قامت القيامة في هذا المكان؟
نهر يركض إلى مثواه الأخير/ طيور تنقر رؤوس الصبيان/ أرض تبتلع النخيل..
ذكرت أعلاه أن المكان تنوع في النص في هذه الليلة العاصفة: الشاعر يحصر هذا العالم في رأسه ليبدأ “في التداعى إلى: البحث عن مدينة في مدينة: مدينة كانت وكيف أصبحت “بعد العاصفة” ( إشارة الى بداية الضياع الذي يعيشه الكاتب )، وبين فراغ كبير في السماء و أرض تبتلع النخيل: دخل الشاعر في بحث مضني عن اشياء ضاعت منه و أولها ذاته: فالنصوص الفلسفية الوجودية نابعة من نفس الكاتب وواقعه، فالصورة: طبيعة ثائرة وشاعر لا درب محددا له..
يتضح لنا كلما تقدمنا في النص أن الصورة نقلها السياب من الواقع و من بقعة في هذه الأرض، وقف الشاعر على أطرافها توقف فيها الزمن فقضم الليل صوت الفجر “غياب النور أو بصورة أدق مصادرة واغتصاب النور “، وكانت الدهشة.
في اشارة الى النهر الذي يركض الى مثواه الأخير والى أحداث النص وواقع الكاتب: بين نهر الأردن والفرات نرى صورة حديثة آنية وأخرى ليست بالبعيدة، لم يقصد ربما الشاعر صبيبهما، بل ما يوجد على سطح الأرض من مياه ما هو الا مرآة للسماء، وسماء النص أمطرت حليبا أسودا، فالنهر في حالة احتضار كما العالم في رأس الشاعر.
في المقطع الأخير من النص انطلاقا من:
شاعرٌ يلجُ القصيدةَ لينجو
يبحثُ عن نفحةِ نايٍ وموقدِ حطبٍ
يسألُ الناجينَ كأسَ خمرٍ
يدندنُ ترنيمةً كنائسيةً..
في سؤاله “الشاعر” عن الناجين، “كأس خمر”، هو النجاة في شكل تمني “لو غاب عن وعيه”، ولم يشهد هذه الأحداث، متواصلة رحلة البحث عن النجاة في “نفحة ناي” لعله يجد الدفء “في موقد حطب”: الدفء العاطفي والوجداني قبل الدفء المادي، تعمق الشعور بالوحدة والبحث عمن يؤنس ذاته ليصحو على وجه الله: “يصحو وإذا بوجهِ الله..!!” نقاط التعجب تأخذنا إلى الملجأ الوحيد لنا في هذا الكون الممتلئ بالمعاناة و المآسي: إلى الله، وكأن الشاعر “يتمنى” ما حدث في ليلة عاصفة كان مجرد حلم أو كابوس،
يرتل عندها الترنيمة الكنائسية
ايقاع النص كان سريعا وعنيفا بأفعاله الواردة في عدة مقاطع من النص: أبحث عن مدينة في مدينة/ الريح تصقل/ يتساقط حليب أسود/ سماء مجنونة/ أرض تبتلع النخيل/ نهر يركض/ طيور تنقر رؤوس الصبيان…
فيتضح جليا مما تقدم أن الشاعر يعيش تمزق عاطفي وجداني بين واقع يعيشه هذا العالم الذي يتداعى وذات تتمنى لو يقف كل شيء ويمر ليله العاصف، فالزمان كان عتمة وظُلم لم يسلم منه شيء، طبيعة ثائرة حزينة وذات عاجزة لا ملجأ لها إلا الله.
النص:
( ناي ليلة عاصفة )
العالمُ يتداعى في رأسي
مثلَ قشةٍ في مهبِّ الريح
الحزنُ يقلمُ أظافري
أبحثُ عن مدينة في مدينةٍ
قضمَ الليلُ صوتَ الفجرِ فيها..
الريحُ القديمةُ تصقلُ وجهي
في ليلةٍ عاصفةٍ فيها الكثيرُ من الدهشةِ والألمِ العظيم..
فراغٌ كبيرٌ في السماء
تتدلى منه صدورُ الأمهات
يتساقطُ حليبٌ أسود
يطعمُ آخرَ العناقيدِ المتواريةِ عن الأنظار
في مقبرةِ الأحياء…
ليلةٌ عاصفةٌ
سماءٌ مجنونةٌ
أرضٌ تبتلعُ النخيلَ
نهرٌ يركضُ إلى مثواه الأخير
طيورٌ تنقرُ رؤوسَ الصبيان
شاعرٌ يلجُ القصيدةَ لينجو
يبحثُ عن نفحةِ نايٍ وموقدِ حطبٍ
يسألُ الناجينَ كأسَ خمرٍ
يدندنُ ترنيمةً كنائسيةً
يصحو وإذا بوجهِ الله..!!