عبثية التقدم في الانسلاخ الحضاري ..
د.علي أحمد جديد
إن تاريخ الشعوب ، الاجتماعي والاقتصادي ، يوضح بأن كل عملية تَقدُّم لابد وأن ترتبط بوجود وَعيٍ حضاري واجتماعي يعطي ملامح صنع هذا التقدم ، إلا أن عمليات التطوير والتنمية في التاريخ الحديث ، وبصورة خاصة في المرحلة التي نعيشها اليوم ، تَظهر وكأنها مَفروضةٌ كنتائجَ بديهيةٍ وتلقائية للاستعمار الغربي ، لأنها غير مرتبطة بمكونات أصالة المجتمعات حضارياً وعقائدياً في مهمة تَقدُّمِها وتطويرها ، إذ أن الأموال المتدفقة من النفط قد دفعت المجتمعات النفطية إلى اختلاق تنميةٍ غير موضوعية تَرتَّب عليها انفصامٌ في شخصية إنسان تلك المجتمعات ، وتَشويهٌ في نمطية سلوكياته البعيدة عن السلوكيات الحضارية و الاجتماعية المعروفة منذ التكوين الإنساني لتلك المجتمعات . وبذلك تمَّ تضافر المال والاستبداد في اختزال تاريخ الأمّة الحضاري وفي توليد سلوكيات فوقية ولاعقلانية تجاه الآخر تعرقل التنمية والتقدم الحقيقيين من خلال تعميم ودعم الإيمان بقوىً غيبيةٍ تُرسِّخ الصراعات التجزيئية والمذهبية لإبقاء التَخلّف الحضاري المنعكس اجتماعياً واقتصادياً في آن واحد .
إن التقدّم يشترط الوعي أولاً بوجود التخلف وبالإرادة الممنهجَة في العمل على تجاوزه ، لأن النهضة لا تتحقق إلا في الاصطدام بالتَخلُّف وفي تغليب الاستنارة لفهم واستيعاب الشعور الحاد بالانفصام الحضاري الذي يفصل بين الأمم ذات التواريخ الحضارية والإنسانية ، وبين الغرب . لكن ذلك لايعني بالضرورة العودة إلى الماضي أو الإصرار على العيش فيه كما هو حال مجتمعاتنا اليوم . وكذلك ، فإن وجود الاستبداد وهيمنته في خَلْقِ كل الشرور وفي خَلْقِ البيئة الخصبة لتفشي الفساد وهيمنة الفاسدين والمفسدين دون رادع ولاحدود . وبذلك لابد من الوعي ومن (التنوير) الاجتماعي الذي يوضح بأن التَقدّم لايعني أبداً التخلي عن أسس الشخصية الحضارية التي أنارت الغرب نفسه وانتشلته من ظلامية ووحشية كانت مُطبِقَةً عليه في كل مناحي الحياة ، ولا إعادة استنساخ النموذج الغربي في مجتمعاتنا ، لأن ذلك يعني الانسحاق الذاتي للمجتمع والانسحاب من ساحة الفعل الحضاري ، كما يعني الرضوخ لكل أشكال الهيمنة الداخلية والخارجية في آنٍ معاً .
وباعتبار أن التقدّمَ هو الوَعيُ بالتخلف ، فإن ذلك يتطلب تأسيس عِلمٍ مَعرفي في تغيير النظرة للأشياء وللمشاكل المُتجذرة في المجتمع ، لأن نماذج التنمية في المجتمعات (النامية) عبارة عن عملياتٍ قيصرية مفروضة تعسفياً يترتَّبُ عليها اهتزازاتٌ في مختلف مكونات المجتمع وأطيافه ، وارتجاجٌ في تاريخها الحضاري ، الأمر الذي يتيح الفرص للسلطات السياسية الحاكمة إلى سلوك سُبلِ الهيمنة المجتمعية والضبط الصارم لتحركات المواطن والتضييق على حريته ، وصولاً إلى حرمانه من حقوقه أو من بعض حقوقه الإنسانية تحت ذرائع حماية المجتمع من التهديدات الخارجية ومواجهة الحِصارات المفروضة ، وبذلك يتصاعد مستوى القهر المعنوي والمادي لدى أفراد المجتمع ككل . ويبقى الغائب الجوهري عن نماذج التنمية المستقاة من الغرب كإخفاقاتٍ تاريخية تعجز عن تخطي واقع التخلف والانحطاط باعتماد السلطات ، عن قصد أو غير قصد ، السماح بتزييف النمو في المجتمعات وإخضاع تقدّمها ، من خلال تقسيم المسؤوليات على مبدأ اللاتكافؤ وتأهيل الأرضية لانتعاش الفساد والمفسدين .
وليس معنى هذا أن كلَّ تَنميةٍ شَرٌّ يجب مَقتُه أو رفضُه ، إنما القصد أن يكون التعامل مع خطط التنمية و الحداثة بامتلاكٍ واعٍ وكامل للذات الحضارية ، وتعاملٍ يَقِظٍ للمكونات الإيديولوجية للآخر ، لأن الكميات الهائلة للثروات المالية التي تدفقت على المجتمعات النفطية ، وبخاصة الخليجية منها ، تتحكّم فيها دورة رأس المال الأمريكي والغربي وتسيطر عليها كمركز احتكاري يُبدع في اجتراح الوسائل والأساليب التي تضمن له استعادة أمواله التي يدفعها مقابل النفط وامتصاصها من جيوب أصحابها ومن حساباتهم ، لأن تلك الأموال تستوعبها المصارف الغربية التي تسمح لتلك المجتمعات بالصرف على أشكالٍ مُحَدَّدَةٍ من (التنمية) الباهظة الكلفة وقليلة المردود . وبالمقابل فإنها تسمح للسلطات النفطية في توظيف أموالها – المشروط – لشراء أحدث وأغلى التجهيزات العسكرية من أجل توجيهها إلى المجتمعات الشقيقة فقط ، ليكون في ذلك محصلة اختيارات تبعية عضوية خالصة للمركز الغربي والاستعماري ، وارتهان غير محدود لقراراته وسياساته ، وتنمية وهمية مفتعلة تَحولُ دون نهضة حقيقية وتُمعن في ترسيخ الانسلاخ عن التاريخ الحضاري عبر تثبيت علاقة المجتمعات بالمركز الاستعماري ترسيخاً لا فِكاك منه . وكذلك ، فإن تدفق الأموال على تلك المجتمعات النفطية يرفع من نسبة مستوى معيشية المواطنين فيها ، لكنها تنتج مواطنين استهلاكيين بامتياز ، حتى باتت تلك المجتمعات تعتمد على العمالة الأجنبية في القيام بالأعمال الإنتاجية نتيجة تَرَفُّع المواطن (النفطي) عن عملية الإنتاج كمحصلة للغنى الفاحش وهستيريا الترفيه في ترسيخ ذلك الانفصام العميق للشخصية المتولدة من تلك النماذج التنموية ذات الطبيعة القيصرية السادية والمُتسلِّطَة .