الفرق بين الأثر الشعري والمعنى الشعري:
أولا / من المحتوى إلى التجربة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في المباحث الجمالية والنقدية المعاصرة، يتقدم سؤال الشعر بوصفه سؤالًا عن “الكيف” أكثر من كونه سؤالًا عن “الماهيّة”. وإذا كان البحث عن “المعنى الشعري” قد ارتبط طويلًا بالتأويل والتفسير والرمز والدلالة، فإن “الأثر الشعري” يمثل انزياحًا في التفكير النقدي من مركزية المعنى إلى مركزية الاستجابة والانفعال، أي من “ما يُقال” إلى “ما يُفعل بالشعور”. وبين هذين القطبين، يتكشف الفارق الجوهري بين الأثر والمعنى، ويبدو ضروريا التمييز بينهما لقراءة الشعر قراءة لا تختزله في بعده التواصلي، ولا تضيّع جوهره في تأملات تجريدية محضة.
المعنى الشعري هو ما يمكن تقصّيه، تفكيكه، وإعادة تركيبه ضمن أفق لغوي ودلالي. إنه حصيلة الجهد التأويلي الذي يضع النص في تماس مع الرموز، المجازات، العلاقات السياقية، والمرجعيات الثقافية التي تحيط به. فالمعنى وفق هذا التصور هو ما يُنتج في فضاء العلاقة بين النص والقارئ المؤوِّل.
ومع ذلك، فإن المعنى الشعري لا يتموضع في النص كما تتموضع الحقيقة في معادلة علمية، المعنى دائم الانزلاق، متحول، مرن، ويقبل التعدد. فكل قراءة تنتج معنى، وكل تأويل يكتشف أفقًا مختلفًا. وقد عبّر بول ريكور عن هذا المنزع حين قال إن “النص الشعري لا يُفهم بل يُفسَّر”، لأن المعنى فيه لا يُختزل في شفرة دلالية جاهزة، بل هو مسار تأويلي متجدد.
أما الأثر الشعري فهو ما يحدث في داخل القارئ من انفعال، ارتباك، نشوة، خلخلة، دهشة، غربة، أو حتى صمت. هو التجربة التي لا يمكن القبض عليها بكلمات، لأنه ليس شيئًا يُفهم، هو مشهد انكشاف، شيء يُحسّ. الأثر لا يمرّ عبر قنوات التحليل اللغوي ولا يمكنه ذلك وخير شاهد على ذلك حالات التصوف، حيث يمر عبر القنوات النفسية والحدسية والذوقية. إنّه في المقام الأول حدثٌ يقع في الذات، يملكها ويملك عوارضها، ولا يمكن ادراكه كرسالة تُفككها الذات.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الأثر الشعري يقاوم التفسير لأنه يُحدِثُ أثره خارج اللغة التفسيرية. تمامًا كما يُحدِثُ مشهدٌ من الطبيعة أثرًا جماليا في النفس دون أن يحتاج إلى “معنى”.
يشتغل المعنى الشعري في أفق العقل والمجاز، بينما يتحقق الأثر الشعري في أفق الجسد والحسّ. الأوّل قابل للاختزال، للتفسير، للنقل، في حين أن الثاني غير قابل للتكرار أو الاستعادة؛ لأن الأثر تجربة فردية، لا تعاد حتى عند قراءة النص نفسه مرتين. وهنا نفهم لماذا قد يقول ناقد ما: “هذا النص لا يحمل معنى واضحًا، لكنه يخلّف أثرًا عميقًا”، أو بالعكس.
المعنى يتحدث بلغة “ما يقول النص”، أما الأثر فبلغة “ما يفعل النص”. وهذا ما يبرّر أن نصًا بسيطًا في بنيته قد يترك أثرا لا تمحوه مئات الصفحات، في حين أن نصًا آخر، غنيًا بالمجاز والدلالة، قد لا يُحدث شيئًا في المتلقي. فاللغة في الشعر بما تُحدِثه، لا بما تعنيه.
حيدر الأديب