الموتُ حبًّا
قصّة قصيرة من مجموعة “ذهول”
تأليف: محمّد نزير الحمصي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن محمّد قد بلغ الخامسة عشر من عمره حينما رافق والده لحضور فيلم سينمائيّ فرنسيّ وصل حديثًا إلى صالة الكندي بدمشق، يحمل عنوان “الموت حبًّا”.
كانت تلك السينما تعرض أحدث الأفلام الفرنسيّة والإيطاليّة والإنجليزيّة المميّزة، والتي كانت بحقّ مقصدًا لشريحة واسعة من الطبقة المثقفة الدمشقيّة.
لفتَ نظره عنوان الفيلم وكذلك بطلته الممثلة الفرنسيّة القديرة “آني جيراردو” التي أقدمت على الانتحار في نهاية القصّة. أثاره أيضًا رؤية الفتيات والنساء وهنّ يجهشن بالبكاء في الصالة أثناء عرض أحداث الفيلم، على الرغم من أنّ قصّته الحزينة لم تكن تواكب المفاهيم الاجتماعيّة السوريّة التي كانت سائدة في ذلك الحين.
أثناء خروجه من دار السينما تأبّط ذراع أبيه وسأله بفضول: هل يُعقل أن يموت الإنسان من الحُبّ؟، فجاء صوت أبيه يحمل جوابًا مقتضبًا:
– لا أظنّ ذلك.
انتهى الحوار حول هذا الموضوع عند بوّابة الخروج، ضاعا بعدها في الزحام، لكنّ السؤال ظلّ معلّقًا دون جواب واضح إلى أن نُسي مع مرور الوقت.
مرّت سنوات المراهقة على محمّد مليئة بالصخب واللعب والفوضى جنبًا إلى جنب مع الدراسة، إلى أن انتهى من امتحانات الثانويّة العامّة.
في تلك السنوات كان من عشّاق الرسم، وقد وصل إلى مرحلة متقدّمة في الرسم والتصوير الزيتي من خلال انتسابه إلى مركز الفنّان أدهم إسماعيل الذي تأسّس في نهاية حقبة الخمسينيّات في دمشق. كان يحبّ أيضًا كتابة الشعر، ويهوى سماع الأغاني الفرنسيّة الكلاسيكيّة شأنه في ذلك شأن معظم أبناء جيله الذين صادقهم في حيّ المزرعة الفاخر حيث كان يسكن. كان محمّد، إضافة إلى كلّ ذلك، متفوّقًا دراسيًّا، لكنّه رغم معدّل الدرجات المرتفع الذي أحرزه في الثانويّة العامّة والذي كان يسمح له بالالتحاق بأيّة كلّيّة يرغبها في جامعة دمشق، لم يفكر أبدًا بأن ينتسب إلى كليّة الطبّ، ومع ذلك رضخ لرغبة والده الذي كان يريد منه أن يغدو طبيبًا مشهورًا مثل عمّه الذي كان في ذلك الوقت أحد أهمّ أطبّاء جراحة القلب في ألمانيا الغربيّة.
مع مرور الوقت وبدء الدروس العمليّة التي كانت تقتضي منه التعامل مع جثث الموتى التي يؤتى بها إلى المشرحة التابعة للكلّيّة، تبيّن له صدق ما كان يقوله ويشعر به باستمرار (لا أحبّ دراسة الطبّ لأنّها لا توافق ميولي ورغباتي). كان محمّد، وهو الذي نشأ وترعرع في كنف أمّه الحنون ومن بعدها أخته ذات العواطف الجيّاشة، يردّد على مسامع أهله باستمرار أنّ دراسة الطبّ تحتاج إلى شخص يمتلك قلبًا قاسيًا لا يهتمّ لرؤية الدماء بقدر ما يهمّه التعلّم واكتساب المعرفة والخبرة، لذلك لم يستطع الاستمرار في الدراسة في الكلّيّة التي تمنّاها له أبوه، وفضّل دراسة الكيمياء لتفوّقه فيها.
لم تسر الأمور على ما يرام في تلك الكلّيّة، وهذا ما صعّب عليه مقاومة رغبة والده الملحّة في إرساله إلى ألمانيا لدراسة الطبّ هناك تحت إشراف عمّه، بحجة أنّ الدراسة في جامعة فرانكفورت ستكون مختلفة عن نظيرتها في جامعة دمشق، فهي هناك أكثر متعة وجاذبية بالتّأكيد.
أمضى محمّد بضعة أشهر في تعلّم اللغة الألمانيّة فوجدها لغة صعبة وقاسية المسمع، وأدرك أنّه من المستحيل إتقانها بسهولة ويسر لاحتوائها على كلمات طويلة بشكل يدعو إلى السخرية على العكس تمامًا من اللغة الفرنسيّة الرقيقة والأرستقراطيّة التي كان يدرسها. عاد بعد ذلك إلى دمشق لقضاء إجازة قصيرة مع أهله.
يتبع