تدرّج الشرعية الشعرية
من الحدّ الأدنى إلى منطقة الصفاء،
——————————–
من أجمل ما ابصرت عيوني
حروف من نور هذا الفجر
مع تعليقي بكل احترام
الدكتور عبدالكريم الحلو
——————————
الموضوع : مقياس الشعر
كمية الشعر في القصيدة
الاديب علي الاماره
ما مقياس الجودة في الشعر ؟
والى أي شيء نحتكم حين يكون بين ايدينا نص شعري ما ؟
على منصة التحليل والتقييم ، نص ارتقى هذه المنصة مجردا من الشاعر والتجربة الانسانية او البيئية او الوسط الثقافي او حتى التجربة ( الشعورية ) التي تقف وراءه
– أي عندما لا نكون بصدد فحولة الشاعر – كما يقول ابن سلام الجمحي –
وانما بصدد فحولة النص ان جاز التعبير ، فليس بين ايدينا سوى كلمات ارتبطت ببعضها عبر علاقات لغوية ودلالية فكونت نسيجا دخل فضاء الكلام بادوات الشعر فهو اذن شعر او هكذا يدعي كاتبه ،
فالمسافة بين الادعاء والتحقيق يجب ان تملا بشروط تكون بمثابة جسور يعبر عليها الكلام الى ضفة الشعر ،
وهذه الشروط – الجسور ينبغي ان تكون قوية ومتينة لكي لا يغرق الكلام في المسافة بين النثر والشعر …
بل ان هذه الشروط او المعابر هي التي تضفي على النص شرعيته ليكون شعرا ،
اما أي نوع من الشعر واية درجة من الجودة والابداع فهذه مسافة اخرى تبدا من الضفة الثانية – الشعر
أي اننا في :
المرحلة الاولى :
نحتكم الى الشروط الاساسية للشعر ..
مواصفاته وتعريفاته العامة ،
او لنقل شروط الحد الادنى منه ..
اما المرحلة الثانية :
فاننا نحتكم الى شروط ارتقائه وتميزه ضمن منطقة الشعر نفسها ..
أي نرصد الطاقة الكامنة في النص ودرجة قربه اوتحليقه في منطقة ( الشعر الصافي ) كما يسميه مور او ( الشعر الخالص ) كما يسميه ازرا باوند حيث الدقة والايجاز البليغ والصورة الشعرية التي اثرها باوند حتى على المعنى ..
او كذلك عند الرمزيين كان الرهان على ( اللغة ) وصولا الى الشعر اكبر من الرهان على ( المعنى ) او ( الفكرة ) .
فحسب كتاب ميلارميه الى ديجا
( ان الشعر يصنع من الكلمات
لا من الافكار )
وفي الكتاب نفسه يتحدث ميلارميه عن احدى قصائده قائلا :
( هذه القصيدة مقلوبة ، اعني ان المعنى – ان كان لها معنى – انما يثيره سراب داخلي ينعكس من الكلمات نفسها .. )
كذلك تلميذه بول فاليري كثيرا ما سخر من الذين يريدون فكرة او افكارا من القصيدة بل انه راى ان :
( مهمة الشعر ان يسترد من الموسيق
ما سلبته منه )
لكن هذه الاراء كلها تطرق لها النقد العربي القديم بشكل مباشر او غير مباشر ،
فمن نقادنا القدامى :
الجاحظ وقدامة بن جعفر والامدي ،
فالجاحظ الذي قال عن الشعر انه
( صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير )
لم يعر للمعاني اهمية بل انها
( مطروحة في الطريق )
انما الشان ومقياس الشعرية يكمن في ( اقامة الوزن وتخير الالفاظ ، وسهولة المخرج وكثرة الماء ، وفي صحة الطبع وجودة السبك .. ) الحيوان- 2/130
اما قدامة الذي يمكن عد كتابه –
نقد الشعر – كله تعريفا للشعر الجيد الذي يريده فقد قال :
( اما علم جيد الشعر من رديئه فان الناس يخبطون في ذلك منذ تفقهوا في العلم ، فقليلا ما يصيبون .. ).
وقد اراد قدامة من لفظ الشعر ان يكون ( سمحا ، سهل مخارج الحروف من مواضعها ، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة )
اما المعنى فان يكون معنى شعريا والا
( فانه لو اراد مريد ان يعمل من ذلك شيئا كثيرا على هذه الجهة لامكنه وما تعذر عليه .. )
كذلك الامدي الذي فضل البحتري على ابي تمام – وان تظاهر بالحياد في كتابه ( الموازنة ) – وذلك لانه يرى في شعر البحتري ( سهل الكلام وقربه ، وصحة السبك ، وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق )
اما ابو تمام فانه – والكلام للامدي – ( صاحب معان غامضة لا تستخرج الا بالغوص والفكرة .. ) الموازنة 1/5-7 .
اما ابن قتيبة والذي كان جاحظيا في رايه فقد قال عن مقياس الشعر
( تدبرت الشعر فوجدته اربعة اضرب .. ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه ،
وضرب منه حسن لفظه وحلا فاذا انت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى .. وضرب منه جاد معناه وقصرت الفاظه عنه ،
وضرب منه تاخر معناه وتاخر لفظه )
الشعر والشعراء ص 133
اما اذا عدنا الى المسافتين التين اشرنا اليهما سابقا فاذا امكنا تشبيه المسافة الاولى بالنهر التي يكون عبورها بواسطة قارب .
الشروط الاساسة للشعر فيمكننا تشبيه المرحلة الثانية بالجبل ،
وان مدى صعوده وارتقائه هو مقياس الابداع والتاثير ضمن منطقة الشعر نفسها ،
بل ان كمية الشعر في القصيدة تعرف من مدى هذا الارتقاء . فليس كل من عبر النهر بالمواصفات العامة للشعر قادرا ان يتسلق الجبل الذي يمثل الطاقة الشعرية الكامنة والمؤثرة في القصيدة .
وان صعود الجبل الشعري يجب ان يكون بحبال الفن الشعري الخالص
والا فان السقوط من جبل ليس اقل ايلاما من الغرق في نهر .. !!
الاديب علي الامارة
============================
الاستاذ الاديب والشاعر الكبير علي الاماره
* ما الذي يجعل من الكلام شعراً ؟
لقد وضعتَ بذكاء معيارًا مزدوجًا لتقييم النص الشعري، يُخرجنا من أسر التجربة الذاتية أو السيرة الشخصية للشاعر،
لندخل في صلب النص ككائن مستقل، يحمل مشروعيته من ذاته.
وهذا هو جوهر النقد الجمالي البنيوي، الذي لا يبحث عن الفاعل بقدر ما يشتغل على المفعول به، أي النص نفسه.
* ثنائية النهر والجبل التي طرحتها
* شديدة الثراء دلالياً:
• فالنهر (شروط الشعر الأساسية)
لا يُغني وحده، لأن كثيراً من النصوص تفي بها دون أن تبلغ الشعر.
• أما الجبل (منطقة الشعر الخالص) فهو محك الارتقاء، وهو الذي يصنع الفرق بين “قصيدة موجودة” و”قصيدة مؤثرة وخالدة”.
* وقد أحسنت حين استعنت بالموروث النقدي العربي وأرَّخته في ضوء التوجهات الحديثة:
* (فاليري، باوند، ميلارميه)
* لتبيّن أن هموم الشعر واحدة وإن اختلفت السياقات.
* وتكمن روعة هذا النص في أنه لا يقترح “وصفة سحرية” للقصيدة الجيدة، بل يُعيد ترتيب الذائقة باتجاه الوعي النقدي، ويضع المتلقي في مواجهة النص، لا في حماية اسم الشاعر أو صيت تجربته.
* بل إن إشارتك إلى أن “السقوط من الجبل لا يقلّ ألمًا عن الغرق في النهر”
*
* هي واحدة من أجمل الاستعارات النقدية التي قرأتها مؤخرًا:
* إنها تُحيل إلى أن الفشل داخل منطقة الشعر الخالص، أي عندما تتظاهر القصيدة بالعظمة ولا تملك أدواتها، قد يكون أكثر إحباطاً من فشل قصيدة عادية لم تدّعِ المجد.
* إنه نص يُكتب ليُدرَّس، ويصلح مقدّمة لنظرية نقدية متكاملة في الشعر، تقوم على تدرّج الشرعية الشعرية من الحدّ الأدنى إلى منطقة الصفاء، وتحاكم النص لا الشاعر، والمُنجَز لا النيّة.
تحية لك على هذا الوعي النقدي المضيء، واللغة الراقية، والرؤية الجمالية المتفردة.
تقبل مني محبتي
وجل احترامي
الدكتور عبدالكريم الحلو