ظلّها أقوى من حضورهن
حين وُلد، لم يبكِ…
قالت الممرضة إنّه كان ينظر فقط، كأن الحياة لا تستحق حتى صرخة البداية…
كان هشّا منذ البدء، طفلا بزجاج رقيق في القلب والعينين…
نظارته ظهرت مبكرًا في وجهه، فكانت أضخم من ملامحه -أثقل من قامته، وأسرع من طموحاته…
وفي فصل دراسي متنمّـر خال من الرحمة، ضحكوا منه ذات يوم، حيث قال أحدهم:
— هذا الأعشى، يرى بالخيال ويكتب بالشفقة…
ضحكوا، لكن شيئا فيه انكسر ببطء وبقسوة لا توصف،
ذلك الكسر لم يلتئم، بل نما داخله كجذر مرّ علقم
ولم يكن يعرف بعد، أن الأعشى كان شاعرا مهيبا…
مرت سنوات، وهو ما زال يجرّ خيباته بثياب أنيقة…
اكتشف مبكرا أن المجتمع يعشق الواجهة،فأصبح هو الواجهة التي يريدونها—
متعلم، لبق، رصين، لسانه يطرّز الكلام كما تطرّز الأرامل أطراف الشراشف ليبقين مشغولات عن الألم الضارب في العمق…
تعلم كيف يُخفي قصره بانتصاب معنوي، ويداري هشاشته بابتسامة لا تقع من شفتيه أبدًا…
أدرك أنّ اللطف في ظاهره أقوى من أي عنف داخلي-
وأنّ النساء -أو بعض النساء، لا يحتجن أكثر من كلمة حنونة وبعض الكذب …
وجد في (الشات )مرآة مثالية
لا أحد يراه، لا أحد يقيس قامته، لا أحد يسأله لماذا يبدو صوته صغيرا كطفل يتهجّى الحروف
هناك فقط… هو الرجل
بكامل ما تمنّاه لنفسه…
نسج علاقات، حكايات، عطورا، رسائل حبّ منسوخة باحتراف…
يغازل ليلى، ويتواعد مع خولة، ويكتب شعرا مبهورا لسعدى
وهكذا باتت لكل واحدة رواية، ونهاية، وبعض الحنين المغشوش،ونفاق لا ينتهي
كان دائما يختار الفريسة السهلة ،الطيبة، الحالمة، التي تخاف من الفضيحة أكثر مما تخاف من الخسارة…كان يعرف كيف يبدأ، ويجيد كيف ينسحب
بنبرة عذر راقٍ، وجملة أخيرة من نوع (أنتِ رائعة، لكنّي ضائع)
في هذه الفوضى التي تحيطه
جاءت هي-لم تقل شيئا حين كتب أول مرة…انتظر يومين، ثم كتبت ردّا باردا خاليا من اللطف والميوعة- قرأ الرد عشرين مرة،وعاش الـقسوة الصامتة…
لم تفعل مثل الأخريات، لم تسأله شيئًا، لم تثرها مواهبه، بل بدا كأنها تضعه تحت المجهر…وشيء فيها أربكه
لم تكن أجمل النساء، لكنها تملك شيئًا لا يُشترى…
حضورها طاغٍ دون أن ترفع صوتها-وثقتها بنفسها تشبه قسوة البحر حين لا يهبّ نسيم…قالت له لاحقًا:
— لستُ ضد الحب، لكنّي لا أحتاجه
لم يسمع مثل هذه الجملة من قبل،
فالنساء عادةً يحتجن شيئا،
أما هي فقد بدت كأنها لا تحتاجه هو تحديدا -وهذا ما قصم غروره بلذّة…دخلت حياته دون إذن ،ببطء، بثقة، كما يدخل الضوء من شقّ باب موارب…
هو خاض ألف علاقة، لكنها كانت العلاقة الوحيدة التي خاضته-لم تطلب لقاء، لم تسأله عن مشاريعه، لم تتطفّل على حريته…
لكن وجودها صار عادته اليومية…
كان يبحث عنها في رسائل لا تأتي، وفي صور لا تُنشر، وفي صمت لا ينكسر…
أحسّ معها بشيء لم يعرفه من قبل -القلق-ذاك الشعور المتمثل في -أن تخاف أن تفقد امرأة لا تطلبك أصلا—
حاول أن يمارس عليها لعبته المعتادة-غزل، دراما، حديث عن الطفولة البائسة، والنجاحات العظيمة، والخذلان المتكرر…سمعته حتى النهاية، ثم قالت بهدوء:
— أنا لا أُثار بالحزن.
قال مرتبكا
— ماذا يثيرك؟
قالت:
— الغموض وصدق القسوة…
أدرك أنه وقع ولأول مرة، من دون خطة…
هو الآن لا يعرف إن كان يحبها… أو يهابها…يبتعد، فلا تقترب
يقترب، فلا تتراجع ثابتة حيث هي…يشتهي أن يلمس ظل طيفها، لكنها لا تمنحه حتى صوتها…كان إذا كتب، شعرت أنه يتوسل وإذا صمت، تذكّر كم كان غبيّا أمام دهائها الناعم…
عاشا سنينًا من الحب المؤجل، العابر، المنضبط كرقصة خطيرة لا يجرؤ أحد على إفساد إيقاعها…
كلٌ منهما له حياته، وداخل هذه الحياة: حياة سرية لا يعرفها أحد.
هو يحبها، وهي تعلم
لكنها سريعة الأفول في أفقه…
ذات مساء، كتب لها:
(حين تغيبين، أشتاقك كمن يشتاق جزءه الأقسى)
فأجابت:
(حين تغيب، لا أفتقدك… أفتقد ضعفي أمامك ،وقد شُفيت)
لم يردّ لكنه علم، في تلك اللحظة بالذات، أن كل النساء كنّ تفصيلا في إمبراطورية…
امرأة واحدة فقط تملك تاجها…
لم تكن الأجمل، ولا الأكثر حديثًا، ولا تلك التي تضحك فتُلفت الأنظار… لكنها حين عبرت، تراجع صوته داخله.
لم تقل شيئًا،وفي صمتها قالت كل شيء…
كانت تشبه الندرة، تلك التي لا تحتاج إلى حيلة ولا زينة…
امرأة تمشي كأن العالم يفسح لها الطريق لا رهبة… بل إجلالًا…
لم تدخل حياته كما تدخل الأخريات؛ دخلت كما يدخل فصل الشتاء بصمتٍ يربك القلب ويوقظ كل ما ظنه نائمًا…
وهو بكل ما فيه من فصاحة وادعاء، وجد نفسه يرتبك أمام امرأة لا تصرخ، ولا تتوسل، ولا تغار… لكنها تمضي، وتترك في القلب مساحة لا تُملأ.
كان يظن نفسه الصياد، فإذا به الفريسة…وكان كلما ابتعد، شعر أنه يقترب من نهايته…
ظلّها كان نادرا ووازنا، لأن فيه كل ما افتقده في الأخريات السكون، والاعتدال، وعدم الحاجة إنها المرأة السيغما محطة عقل كل الرجال…
فائزه بنمسعود
صالون الكتاب سوسة
10/5/2025