في حضرة الغدر
==========
في المحكمة، كان عمر وحده.
صدر الحكم بغرامة مالية: ألفا يورو.
وهو، الطالب الذي يعمل ليلًا في المخبزة ليواجه مصاريف الحياة في الغربة، دون أن يُثقل كاهل والديه.
لم يُمنح الوقت، ولم يُترك له المجال ليدافع عن نفسه.
كأنّ التهمة كانت مُعدّة سلفًا، والشاهد… صديقه.
ذاك الذي يعرفه حقّ المعرفة، وكان حاضرًا أثناء كل ما حدث،
لكنه اختار أن يصمت، أن يخون، أن يطعنه في اللحظة التي احتاجه فيها أكثر من أي وقت مضى.
عاد عمر إلى غرفته تلك الليلة، خفيفًا من كلّ شيء… إلّا من الألم.
جلس قرب النافذة، وكتب في دفتر صغير لا يقرأه أحد:
لم أفعل شيئًا… فقط مددتُ يدي، أردت أن أمنع السقوط.
لكنّ السقوط لم يكن سقوطًا… كان كمينًا،
وكانت يدي هي الفخ.
في الخارج، كانت برلين تمطر.
وفي الداخل، كانت روحه تحترق بصمت.
⸻
لم يكن عمر يُجيد اقتسام غربته مع غيره.
جاء إلى برلين حافيًا من التجارب، مثقلًا بالكتب، وبصوت والدته العالق في الذاكرة كدعاء قديم.
كان يؤمن أنّ الصمت أحدُ أشكال النجاة، وأنّ من يُنزل رأسه قليلًا أمام الريح، ينجو.
لذلك، نادرًا ما كان يخرج.
اكتفى بغرفته، بمرآة صغيرة قرب السرير، وبنافذة يرى منها وجوهًا تعبر الشارع ولا تلتفت.
أمّا ياسين، زميله في السكن، فكان نقيضَه: مندفعًا، صاخبًا، متقلّبَ العلاقات والوجوه.
يحبّ أن يكون في كلّ مكان، ومع الجميع، في الوقت نفسه.
وفي اللحظات الحاسمة، كان يعود دومًا إلى عمر:
يطلب مساعدته في الامتحانات، يستعير ماله، ويحتمي بنظامه كما تحتمي الفوضى بظلّ شجرة.
عمر لم يشكّ يومًا.
لم يظنّ أن الطيبة قد تُؤخذ عليه، أو تُستخدم ضدّه.
في مساء شتوي، دخل ياسين الغرفة ترافقه فتاة.
كان الهواء مشبعًا بعطرٍ ثقيل لا يُشبه البرد، ولا يشبه البيت.
قال مبتسمًا:
ـ “هيا، نخرج قليلًا. تحتاج أن تتنفّس، أن تضحك.”
تردّد عمر، ثم، في لحظة ضعف، وافق.
خرج ثلاثتهم.
كان الشارع رطبًا، والأضواء معلّقة على عيون المارّة كأقنعة.
لم يتبادلوا الحديث كثيرًا.
الفتاة كانت تسير بمحاذاتهم، غير آبهة، كأنها تؤدّي دورًا لا يحتاج جمهورًا.
ثم فجأة، توقّفت، مالت بجسدها، وسقطت.
مدّ عمر يده.
ردّ فعل فطري، بريء.
لم يُفكّر، لم يسأل. فقط أراد أن يمنع السقوط.
لكنّها نهضت وحدها، واستدارت نحوه، وصفعته.
صفعة جافّة، بلا مقدّمات، كأنّها كانت تنتظر تلك اللحظة.
ثم صاحت بنبرة مرتفعة:
ـ “تحرّش بي!”
تجمّع الناس.
توقّفت الخطى.
وصار صوتها شهادة.
وصلت الشرطة.
سألوه:
ـ “هل تعرفها؟”
أجاب، وعيناه لا تزالان شاخصتين من أثر الصفعة:
ـ “هي صديقة زميلي، ياسين.”
فنظرت إليه، وأنكرت معرفتها به.
وبصوت واثق، انضمّ ياسين إليها، وقال، وكأنّ الأمر لا يعنيه:
ـ “أنا أيضًا لا أعرفه.”
ولم يكن ما تبقّى سوى السقوط الكامل… أمام القانون، وأمام نفسه.
راضية بصيلة