صديق الأطفال…المبدع ميزوني البناني في ذمّة اللّه
خصّص المبدع القدير جزء من أعماله لأدب الطّفل فألّف مجموعات قصصيّة رائعة أثرت رفوف المكتبات في هذا الجنس من الأدب …ولعلّ اهمّها مجموعته “تراب الوطن” التي تناولتها بمقاربة قرائية في مناسبة احتفاليّة به وبمنجزاته نظّمها فرع الكتاب التونسيين برئاسة الشاعرة ضحى بوترعة وتنسيق الشاعرة زبيدة محمد العرفاوي …أعيدها اليوم للضّوء مترحّمة على فقيدنا العزيز الفاضل….الخلوق… الكبير ميزوني الباني …
لروحه الرّحمة والمغفرة ولنا الصّبر والسّلوان ولجمهوره من التّلامذة والأطفال أصدق التّعازي
___________________________________
قراءة نقديّة في المجموعة القصصيّة ” تراب الوطن” الموجّهة للأطفال بداية من سنّ التّاسعة/ تأليف ميزوني بنّاني / تونس
بقلم المربية الفاضلة / منّوبيّة غضباني
بسم الله
على ضفاف التّذوّق -لأنّي لست ناقدة ولا أكاديمية- أستسمحكم مبدعنا القدير ميزوني بنّاني وأنتم أكبر من أن أقدّم عملا من اعمالكم الّتي نالت اهتمام النقاد وأغرت أقلامهم في العالم العربي؛في القصّة والشّعر وأدب الأطفال والمقالات، أستسمحك في هذا الخوض الخجول في مجموعتكم القصصيّة “تراب الوطن” الّتي كلّما أبحرت فيها انفتحت أمامي أبواب للتّأمّل والتّقصّي في تفرّدها وخصوصيتها، ونظرا لكثافة المادّة وحضور جمهور الأطفال الّذين نودّ سماعهم هم، سأختصر مداخلتي دون أن أقف عند ميزات الكتابة وجهازها اللّغويّ القريب من معجم الأطفال المتداول وأسلوبها الشيّق، فهذه المعايير تناولها النّقد لأعمال مبدعنا فأجمعوا على خزين هائل وهاجس إبداعيّ مرفود بمهارات وحرفيّة في المنجز الكتابيّ للرّائع ميزوني البنّاني، وسأبدأ بالمضامين المعالجة في هذه المجموعة وبطريقة معالجتها والّتي اتّسمت بالطّرافة والتّفرّد، وقطعت مع مضامين تصبّ في قالب واحد، ولم تواكب الرّاهن؛ ففي هذه القصص العشرة انشغال واشتغال من المؤلّف على المشاغل الرّاهنة وقد ارتقت هذه المضامين بخروجها عن المألوف والابتعاد عن العادي والرّوتينيّ والمجترّ لتقتنص روافد لها من محيط الطّفل فعلا وتفاعلا معه…
1/ في قصّة تراب الوطن قصّة مكتوبة برهافة ولغة محلّقة في أكبر وأجمل القيم فالوطن قيمة عالميّة كونيّة كتب فيها كلّ المبدعين والشّعراء …وهو ما جعل منها مفهوما متجانسا متكرّرا يحتاج قدرة لاحتضان الأحاسيس وتكريسها خارج النّماذج المعياريّة النّظريّة، وقد بدا لي تفردّ مبدعنا في معالجتها نبيها وذكيّا جدّا يختزن من التعبير والدلالة أكثر بكثير من الكلام عن الوطن …فحفنة تراب من الوطن تأخذها معها البنت “وردة” تغرس الوطن في أسوار الرّوح لتضوع روائحه خارج أسواره وحدوده؛ تقول “وردة” لعون الجمارك:”هل حبّ الوطن يحتاج لرخصة وإذن؟”فيكتفي العون برفع يديه تحيّة لحفنة التّراب …اقتنوا الكتاب وعودوا لقراءة مزيد من البهاء والجمال..
2/ قصّة “البحر للجميع” ؛ عنوان مثير جدّا؛ ومن قال إنّ البحر ليس للجميع؟ هو الطّفل “رمزي” الّذي اضطرّ للتّنكّر، ولبس قناع نمر، ليسبح كغيره من الأطفال، لينتهي بإنهاء عقدته من بشرته السّوداء، وهو مضمون مستحدث ممّا خرج عن دائرة المسكوت عنه بعد التحوّل السّياسيّ في تونس؛ يبدو أنّ لا وجود للمشكلة إلا في رأسي وفي رؤوس بعض الناس…يتساءل الطفل في آخر القصّة..
3/ قصّة “الجدّة تغني للشّجر ” وهي قصّة على رمزيتها الفائقة مانحة الطفل تطلعا إلى فهم أعمق لسرّها وكنهها و مجتلى حقيقتها، متيحة له التّحليق في فضاءاتها وأفقها الرّحب، وما يجيئ من الجدّة هو من القيم العميقة المستمرّة فينا الّتي لا يجب أن تندثر، والجدّة ذاكرة من نور حين نحاول استفزازها في طفولتنا، تأخذه بالحضن وتهدهده، وما يبهر القدرة اللاّفتة والتفرّد من المؤلف بطرقه المضمون بطرافة لم تؤتها أقلام أخرى، والّتي حبسوها في الحكاية والخرافة الشعبيّة؛ سترون جدّة بمقاييس وصفات أخرى وذات مغايرة …ولن أبوح لكم بأكثر من ذلك يا أطفال، فاكتشفوا البقيّة بأنفسكم..
4/ قصّة “الجمل السّياحيّ” طرافة المضمون الّذي يستبدّ بلحظة مكاشفته، فيجيئ من حلم من صورة من هاجس وطنيّ وجب تمريره للطفل وللنشء لإدراكه والوعي به.. فما علاقة الجمل يا أولاد بالسياحة؟ أتراه يتسوّح…يجلب السوّاح…فللمعايير والقيم عند مبدعنا وظائف متعدّدة إيحائيّة رمزيّة دلاليّة تفسيريّه، يقدّم له الأطفال قنّينة و….و…. ويقول رجل من شاحنته هذا القعود ليس للذّبح، سأنقذه .. لماذا سيصلح؟ كيف سينقذه؟ وللحكايات أسرارها نفكّ أزرارها بالقراءة..
5/ قصّة ” جارة ابن خلدون”وأخيرا في مجال المضامين هي قصّة يطير بنا فيها زمن الحكي في كسر خطيّ للزّمن كأنّه البساط السحري الّذي يحطّ بنا في أزمنة ماض سحيق، يهدّده مفعول النسيان، وبطريقة كأنّها الآن: “السّلام عليك يا جاري ابن خلدون يا ابن تربة الباي” ليذهلنا المؤلّف بسياقات حافّة بالنّص ننظره بعيون لا بعين واحدة وندركها بكلّ الحواسّ لا بحاسّة واحدة …لباسنا بين الموروث والحداثة و…و… أمّا التّفرّد الثاني الّذي يميّز هذه المجموعة القصصيّة، وما أريد أن أنهي به هو الطّفل الّذي له قيمة مركزيّة في مستوى تشكيل ذاته وتمرّسه على القيم المعالجة لا كتعليمات وأوامر لمدوّنة الأخلاق؛ وهو ما لم يخرج عند أغلب أدباء أدب الطّفل من دائرة النّماذج المعياريّة النظريّة؛ فهذا الأدب الموجّه للطّفل في مؤلف ميزوني البنّاني اتّكأ على أحدث نظريات التعلّم، ومنح الطّفل استعدادات ذهنية فائقة قابلة للتحقيق بطريقة لمّاحة ذكيّة، تجعل ذاته في تشكّل دائم …ذات مفكّرة، فاعلة، رافضة لكل أشكال الإحباط، وقاطعة مع رداءة النّظم السياسيّة والاقتصاديّة التي جعلت القيم في بلبلة وعدم ثبات، تحكمها الشّهوة والمصالح؛ وقد لعبت الشخصيات بتنوّعها دورا فاعلا وخصّها السّرد بجماليّة فجاءت ركيزة أساسيّة لمبدعنا في تمرير القيم النّبيلة دون توجيه ووعظ مباشر…فجاء حضورها لافتا مؤثّرا ينزع إلى الفعل عوض التنظير . ثمّ أن اختيار أديبنا القصّة كجنس أدبيّ خلافا للكثير ممّن فضّل الشعر هو الاختيار الأدقّ والأجمل باعتبار ميزات القصّة وفنّياتها وما تمنحه من عمق وأفق تحليق…
شكرا مبدعنا القدير لجهدكم المتميز الّذي جعلنا ندخل عوالم الطّفل من زاوية العمق الحميم، وهنيئا للطفولة بأدبكم الّذي اعتبره نموذجا للدّراسة والاستئناس لجودته ورقيّه وقد دعّمه تواصلكم المستمرّ بجمهور الأطفال، ومحاورتهم لك ممّا يرتقي بفهمهم وتلقّيهم الواعي..