إليكم قراءة (حَوْمُ) للاستاذ متفقد اللغة العربية يوسف بن عثمان حول عنوان كتابي ” فكّ قيد الشمس “..
فُك قَيْدَ الشّمْسِ:
حَوْمٌ حول العنوان لا يقطع ظمأً
أمّا ” فُكّ قيدَ الشّمس” فعنوان الديوان الجديد الذي أطلّ على قرّاء أشعار المبدعة أحلام الهاشمي فتيتة، والذي احْتُفِيَ بصدوره ـ وبحضور ناسجته ـ في الدورة التّاسعة والثّلاثين لمعرض تونس الدّولي للكتاب (2025).
و أمّا لماذا “حوْم” ، فلأنّ هذا العنوانَ ليس سهلا فهمُه ، وليس مألوفا إجراؤُه في عناوين دواوين الشّعر؛ ذلك لأنّ عناوين دواويننا العربيّة كثيرا ما اتّكأت على قصيد من الدّيوان، أو حتى على عبارةٍ ـ أو كلمةٍ ـ من بيتٍ في الدّيوان، أمّا مع “فُكّ قيدَ الشّمس”، فليس الأمر من ذلك في شيء.
وقد تدبّرت الأمر فلم أجد هذا العنوانَ نصّا وفصّا حاضرا ـ كُلّا أو بعضا ـ في أيّ من قصائده، لكنّ كلمة شمس وردت مرّة واحدة في عنوان قصيد( شمس اللّيل/ص76)… و لم أجد لتلك الجملة الفعليّة البسيطة من رِكْزٍ في العناوين ولا في المتون، بل لم أجد كلمة “شمس” إلّا خمسَ مرّات في أربعة أبيات:
ـ الشّمس شمسك إذ صارت بذا الوضح =+= تقفو انتشاركَ في الآفاقِ والقِممِ ( ص53/باب مدن الاغتراب)
ـ هل “أشرقت في الكون شمس حضارة” =+= دون المعلّم مجتبًى ورسولًا؟ (ص63/باب مخبر وقضايا)
ـ ربّ شمس أشرقت ليلا كما =+= ساقها الحلم بركب الهودج ( ص76/باب مدينة الوجد)
ـ واتّقد كالشّمس نورا =+= في مصابيح السّماء ( ص 104/ باب مدينة الماء)
ولك أن تلاحظ معي أنّ كلمة شمس ذكرت مرّة واحدة لا غير في أربعة أبواب ، و لم تظهر في بابيْن هما :باب محراب الحنين، وباب السجال ، و هما البابان الأوّل والأخير في ترتيب أبواب الدّيوان، ثمّ إنّهما أقلّ الأبواب عددَ قصائد.
و إذن ، فإنّه من العسر بمكان أن ندّعي قطيعة مطلقة بين عنوان الديوان وقصائده، لكن: ليس أقلّ عسرا من ذلك أن نستسهل لمح وشائج بين رأس الدّيوان وجسده، ومع ذلك نحتاج أن نحرث بعض حرث عسانا ننتبه إلى أمشاج رابطة بين الطّرفين، ولا تثريب إن نحن وقفنا دون الغاية ، فيكفينا أنّنا تساءلنا، ولعل غيرنا يدرك ما وقفنا دون الانتباه إليه.
العنوان جملة فعليّة بسيطة في منطق النّحو، وهو إنشاء طلبيّ في منطق علم المعاني من البلاغة ، أمّا في عوالم الشّعر فهو “إحلام للنّفس” غير محسوم، و الشعر نقتله إن حاولنا حسمه، ألم يقل شيخ المعرّة وهو من هو علما ونفاذ بصيرة:
لا تقيّد عليّ لفظي فإنّي =+= مثل غيري، تكلّمي بالمجاز.
وقال شيخه بالدّرس : أبو الطيب المتنبّي ، وهو “رأس شعراء العرب” ، وهو “رأس ضخم” كما قال المبدع مارون عبّود(وهو وحده يتحمّل مسؤولية تذكير كلمة رأس) قال، أعني المتنبّي:
أنام ملء جفوني عن شواردها =+= ويسهر الخلق جرّاها و يختصمُ
فانظر كيف سلّم المتنبي بباب للتأويل وتعدد وجهات النظر حين يتعلّق الأمر بالشعر..
و لا ننسى ثالثة في سياق حديثي هذا ، وهي تلك المنسوبة إلى البحتري حينا وإلى غيره حينا:
عليّ نحت القوافي من معادها =+= وما عليّ إذا لم تفهم البقرُ
وحكاية أبي تمّام في ردّه على من سأله لماذا تقول ما لا يُفهمـ أشهر من التذكير بها .
و على هذا الذي كنّا نذكر ، فليس لزاما على الشّاعر أن يهتك أستار ما يقول، فتلك مسؤولية المتلقّي: فعليه أن يتدبّر ما يتلقّى فيجتهد وهو مبشّر بأحد الأجرين إن جانب الصواب…
و يبقى الشعر في عوالم الفنون القولية متّكئا على درجة من الغموض هي من مولّدات لذّته، ولم أر أمهر من مصمّمي الأزياء في استثمارها، فعندهم أن بعض التّغطية أفعل في النّفس من مطلق التّعرية!
و لعلّه يضيف إضاءة ولو يسيرة أن ننظر في “الشّمس ” فلعلها تسف بعض إسعاف في فهم عنوان الديوان.
فالشّمس هي مصدر النور و الدّفء و الحرار لا يجادل في ذلك أحد، بل هي أمّ الحياة على الإطلاق ، فلولاها ما كان مطر ولا سقي زرع و لا رِيّ بهيمة ولا بشر، و لولاها ما كان لتفاعلات حياتية حيوية كيميائيّة أن تكون…
ثمّ ، وهي مصدر النور، ثمثّل أجلى نموذج ترميزيّ لمعاني الحريّة و الجمال و الدّفء وإبصار الحقيقة، وهي بذلك أسطع رمز للوعي والانعتاق …
الشّمس والنور صنوان ، و النور والحقّ صنوان ، و الحق هو الله : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ …/ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ…/ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ …
ولنختصر:
إذا كانت متعلّقات الشّمس كما ذكرنا، فكيف نعتبرها قيدا ؟ وكيف جاء هذا الأمر بفكّ قيدها؟
هل نحن إزاء رمز لما هو فطرة / غريزة / طبع في الإنسان ؟
هل الشاعرة توجّه إلى كسر قيود منطق القوة التي قسمت العالم إلى قسمين: قسم قوي غاشم و قسم ضعيف خانع ؟…
ذلك و غيره من الأسئلة يبقى من حقيقة قارئ هذا الكلام ، و يكفي الآن أن نختم بقول الشّابي:
إلى النُّورِ فالنُّورُ عذْبٌ جميلٌ =+= إلى النُّورِ فالنُّورُ ظِلُّ الإِلهْ