زكية المزوري وطلاسم الظل
للون الأسود يمثلها في كل معانيه ومجسماته .
ابنة سبع أعوام تبيع الحلوى والأطعمة الشتوية .
واجهت نظاما عميق التوحش عجز الرجال عن مواجهته
ج / 13 عصمت شاهين الدوسكي
قرأت لها في مطلع التسعينات ، شاعرة وتشكيلية وصحفية ، تكتب وترسم بعزفٍ ولونٍ منفرد ، تتحول حينا لقصيدة وحيناً آخر إلى لوحة سوريالية ، تجسد قصائدها عوالم قاتمة غير مرئية وطقوسا ليلية مزرقة بالوجع، تستظل بلبلاب يتسلق لأكوان خفية ، يتسلل خفية لعذابات نبيلة تتفرع كأغصان الآس على سفحٍ قشيب ، تبحث عن مجسمات فكرية منسقة بمفرداتٍ غير تقليدية لتصنع تجربتها الفريدة وملاذها الآمن.
لون الفناء الذي يخيم على قصائدها ، والغور في متاهات الوهم والولوج العميق في عوالم التصوف الذي تختاره كألة لجز أحراش الوحشة من حولها ، ينقش لوحاتها السوريالية ويجسد أكوانا خفية كما في قصيدة ” طلاسم الظل ” ، تلك القصيدة التي جسدت مكامن الحزن والحُلمْ لدى الشاعرة ، فكانت كالأرجوحة التي تكاد تسقط بنا في دائرة الوهم التي تريدنا الشاعرة أن نقف عندها ونفتح الباب أمامها على مصراعيه .
لا تكاد تتلمس مفرداتها حتى يعتريك شعور بالدخول إلى مغارة لا ترى فيها موطأ لقدم لتضع أوزارك وتتلحف بزوادة رحلتك لتقرأ بأريحية دون أن تدفعك يد خفية نحو الهوة .
الشاعرة والفنانة التشكيلية والكاتبة زكية المزوري أعرفها منذ الثمانينات امرأة جريئة ذو حس مرهف ، كانت شديدة التعلق باللون الأسود ، بل يكاد أن يمثلها بكل معانيه ومجسماته ، فاللون الأسود كان وما يزال رمزا لحياتها وفنها ومشاعرها ، وبعد عدة لقاءات أجريت معها لقاءً صحفي الجريدة العراق عام 1992 م بعنوان ” معرض دائمي في المستشفى العام في الموصل ” ، حيث كانت تعمل هناك ملاك رحمة وتنشر مع خيوط لوحاتها سلاما روحيا في دهاليز ردهات الأمراض المستعصية لآباء وأمهات تركهم أولادهم بعد دخولهم مراحل الهرم الأخيرة .
التجليات المعقدة في قصائد زكية المزوري لعوالمها المنتقاة ، كسلة فاكهة تكاد لا يفارق ذائقتك كمطلَع على تجربتها الشعرية ، والتي تحاول دائما وأدها واخفاء دلائلها علي رفوف النسيان ومنعها من التحليق وإطلاق سراحها للنشر علي صفحات المجلات الأدبية ، فقد كانت مقلة في النشر في بداياتها ، والآن وبعد مرور أكثر من ثلاث عقود على تجربتها الشعرية لا نكاد نرى لها نشرا لقصيدة ، حتى عندما يطالبها زملاؤها من رؤساء الصحف والمجلات ، تعتذر منهم وتقنعهم بكل أدب أنها لم تكن يوما شاعرة ، أنما هي دفقات من رعاف … .
ولدت زكية من رحم المعاناة ، فما واجهته من نظامها المجتمعي العجيب يستحق أن يكون فيلما فنيا ووثائقيا لامرأة جابهت نظاما دكتاتوريا عميق التوحش ، قميئاً عجز الرجال عن مجابهته حتى في أحلامهم ، بل حتى في مراحل عمرها الأولى كانت مثلا لأقرانها ، فقد عملت وهي ابنة سبعة أعوام في بيع الحلوى والأطعمة الشتوية أمام باب منزلها الهرم في أحدى المناطق الضيقة بمحلة النبي يونس في الجانب الأيسر من الموصل لدعم أسرتها التي واجهت الفقر المدقع بعد نزوحها من القرية إثر اندلاع الصراع بين ثوار البارتي الكردية والحكومة العراقية عام 1972 م ، حيث أحرقت تلكم الصراعات مزارع القرويين ومواشيهم وبيوتهم مما دعاهم إلى النزوح إلي مناطق الموصل الفقيرة .
ليس بالأمر الهين كناقد أن أقرر تحليل القصيدة لأي شاعر أو شاعرة ، فما بالك حينما نقترب من هم أنساني وذاتٍ متعبة منهكة مجسدة في كلمات منسقة كقلادة سوداء تلتحف بسواد مزرق بلا ملامح ، هنا سأحاول أن أقترب بهدوء من عوالم قصيدتها ” طلاسم الظل ” والتي تناقلتها صحف عربية ونشرتها أخرى عراقية قبل أكثر من عقد ، وسأقتطف منها :
(( وأضيع وحدي على خط
الاستواء
أبحثُ عني
ساعة تَرقبُ أمي
كل الطرق المؤدية ألي
وتحلم أن أعود شرنقة
معلقةً بجدار الرحم ))
جدار الرحم هنا يكاد أن يكون منجى وملجأ في الوقت ذاته ، فهي تحرك مقاصدها في اتجاه أمنيات الأم الخائفة علي الضنا في محاولة يائسة لتأمين السلام والأمان المفقود ، وكي لا نهيم في أودية التخمينات المبهمة والفرضيات العقيمة علينا أن نلتزم بأدبيات التكوين الإنساني للشاعر أو الشاعرة ونشخص ما يتلاءم ورؤاه الإنسانية وما عاصر من حوادث وتجارب عميقة فاقمت من معاناته وزادت عن قدراته وطاقاته العقلية والمعرفية على التحمل ، ليلجأ إلى عوالم القصيدة ناثرا همه المخضب بالوجع باحثا عن نوافذ مفتوحة مطلة على ملاذات آمنة والملاذ هنا هو رحم الأم مهد التكوين وآريكة الحب الإلهي .
(( أسير خلفي
اتبع ظلي المستديم
نحو أفق بلا نور
قرب الجدار الخرِبْ
لا أشاكس الكلاب المسعورة
تنفلق مني دمعة
وأخرى
يخطفها الوجع
قبلي ))