ناسٌ وناس .
أضواءٌ وألوانٌ وموسيقى على أسطُحِ مطاعمٍ عائمةٍ
على وجه نيلِ أُمّ الدُنيا
ورقصُ صبايا وغناءٌ جماعيٌّ ارتجاليٌّ
بإيقاعٍ سريعٍ وأصواتٍ مُرتفعة :
( بحياتُك يا ولدي امرأةٌ .. عيناها سبحان المَعبود … )
وعلى حافةِ الوطن الكبير شبابٌ وصبايا بالآلافِ
يتمايلون وقوفاً رافعي أياديهم للأعلى
في حفلاتِ “موازين ” الصادحةِ في مَغربِ العرب .
وهناك ما بين مكةَ والمدينةِ
وعلى أجملِ مسارِحِ الدنيا المكشوفةِ
تُخاطبُ ” أصالة ” حبيبها أمامَ كلِّ عُشّاقِ الدنيا :
( قَدِّ الحروف اللي في أسامي العاشقين .. أنا بحبك .. )
والصالاتُ والمسارحُ والمقاهيُ العربيةُ
كانت في ذات المساء تعُجّ بِروّادها
وسط أضوائها وموسيقاها ..
حتى بيوت العرب الصغيرة في أنحاء الوطن الكبير
كانت دافئةً بِدَباديبها وقلوبها الحمراء ..
وفي غزة هنا وفي ذات اللحظات
كان بيتي يَموجُ بنا كسفينةٍ فوق أمواجٍ عاتيةٍ
مِن شدّةِ ضجيجِ قصفٍ مجنونٍ
مازال ينسفُ البيوتَ مِن حولنا فوق رؤوسِ ساكنيها
و نحن جلوساً على أرضِ غرفةٍ خافتةِ الإضاءةِ
قد اشتد انكماشنا واشتد التصاقَ زوجي وأطفالي بي
أُحيطُهم أنا بذراعيّ ويهمِسون هُم لله أن يحمينا ..
يقترب القصفُ مِنّا .. يطالُ الجوار ..
أنتزِعُ جوالي مِن جيبِ بنطالي .. أغرِسُ سماعاتهِ في أُذنيّ
أبحثُ بين محطاتِ مذياعهِ عن واحدةٍ تنقل بالضبط ما يدور ..
هذه محطةٌ تذيعُ استغاثاتِ ونداءاتِ المحاصرين المرعوبين .
هذه أخرى تذيعُ بكاءً وعَويلاً مِن بين ومِن تحت الركام ..
وهذه ثالثةٌ يصِفُ مُراسلها كيف يتم بترِ الأطرافِ العالقةِ
تحت أطنانِ الخراسانات بالسكاكينِ بتراً ميدانياً
ليتم انتشالُ أصحابها أحياءً
ويَصِفُ ذاك الصراخ وذاك الألم المُصاحبينِ لذاك البتر .
يتعاظمُ القصفُ مِن حولنا .. يشتدّ اهتزازنا ..
يطلُّ الرعبُ مِن عيوننا .. نتصَبَّبُ عرقاً .. تُصيبنا الرجفة ..
أواصِلُ البحث بين المحطاتِ عن واحدةٍ تخبرني بما يدور ..
تستوقفني موسيقى لأغنيةٍ
كان لي معها حكايةُ عشقٍ ذات حُلُم ..
أثبُتُ مُندهشاً مُصغياً ..
أغرِسُ السماعات في أُذُنيّ جيداً
وشيئاً فشيئاً أعتدلُ واقِفاً
أُحرِّكُ رأسي طرباً .. أُراقِصُ كتفَيَّ مع الموسيقى
تُحملِقُ فيَّ زوجي ومعها أطفالي ذهولاً وعجباً ..!
تبدأ المطربةُ غناءها ..
أنطِقُ بِلَفظِ الجلالةِ طَرَباً :
_ الله ..!
يشتد مِن حولنا القصفُ والنسفُ والضجيج ..
تتكسَّر نافذتنا .. تتطاير مِن فوقِ رؤوسنا الشظايا ..
يكسونا الغبار ..
يتقوقع كل مَن حولي جُلوساً وانكِماشاً ..
ومازلتُ على حالي .. واقفاً هائماً في خيالي
مُحرِّكاً رأسي وكتفَيَّ مع المطربةِ
مُرَدِّداً بِصوتٍ مسموعٍ معها :
( لو تِعرَفوا .. بِنحِبُكم وِنعِزُّكُم كده أَدِّ إيييه ..
لَتقَدَّروا .. حتى التُراب اللي بِنِمشِل … )
أسكُتُ فجأةً ..
.
( بسام الأشرم )
ء5. 5 . 2025