استخدام (الدين) محوراً للصراعات العالمية المستحدثة ..
د.علي أحمد جديد
لما تنبأ الروائي الفرنسي (أندريه مالرو) ، في ستينيات القرن الماضي بأن “القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الأديان أو لا يكون” ، كان على الأرجح يضع في اعتباره نتائج خطط الغرب والولايات المتحدة الأمريكية التي عرفها عن قرب في ذلك الوقت بحكم موقعه كسياسي مثقف ، ومحترف مطّلع ، بأن يكون القَرنُ الحالي قَرنَ التحوّلات التي يشكّل فيها (الدين) أساس مكوِّناتها وإسناداتها . والمؤكد أن (أندريه مالرو) ، الذي تولى مسؤولياته في جهاز الدولة الفرنسية لقطاعي الإعلام و الثقافة ، كان يعني ماستشهده أوروبا أيضاً ، وليس الوطن العربي والشرق الأوسط وأفريقيا وحَسْب .
وما نشهده اليوم من التغيرات في الصعيد العالمي ، وعودة (الدين) بقوة لكي يحتل موقع المركز في السياسات الثقافية والأمنية والاجتماعية ، نتيجة آثار التدمير التي يخلفها التطرّف الديني ، وظهور أنماط جديدة ومستنسخة من العنف ، مع تزايد التعبيرات الدينية التي باتت تغذي الخطاب السياسي تلميحاً وتصريحاً ، كل ذلك يؤكد صحة ما قاله (أندريه مالرو) قبل أكثر من خمسة عقود من السنوات .
والدراسة التي نشرها مركز البحوث الأمريكي (بيو Bio) تُبرِزُ المسار الذي يسير فيه عالَم اليوم نحو الانعطافات الكبرى في العقدين الأخيرين بوجه خاص ، والتي أدت إلى حالةٍ غير مسبوقة من التماس والتمازج بين الدين وبين السياسة إلى درجةٍ أصبح فيها التدين الظاهري يملي شروطه على المواقف من مختلف القضايا المطروحة في الساحة العامة ، وصارت السياسة تتجه كلياً نحو الخضوع للتمثلات الدينية ، وبتنا في قلب نظرية الأمريكي (صاموئيل هانتنغتون) التي صاغها عن “صِدام الحضارات” قبل السنوات العشر الأخيرة ، عندما تنبأ بأن الحدود الثقافية في المستقبل ستصبح حدوداً (دينية) ، واستطاع التطور النوعي على المجتمعات الغربية يهدّد الثقافة العلمانية التي عاشتها الأجيال المتعاقبة في القارة الأوروبية . ويتمثل هذا التطور في بروز الاصطفافات على العقائدية الطائفية و المذهبية ، وعودة ما يمكن تسميته “الهوية الدينية” التي تنبأ لها الفيلسوف والمثقف الفرنسي (أندريه مالرو) في ستينات القرن الماضي ، ولحقه في هذه النبوءة المفكر والسياسي الأمريكي (صاموئيل هانتنغتون) . وجاء ذلك نتيجة العمل والتخطيط على ظهور حركات “التطرّف الإسلامي” ودعم تنامي نشاط “الحركات الإرهابية” التي يمكنها أن تخلق ردات فعل تأخذ في أغلبها صورة “التقوقع” لدى الفرد الأوروبي داخل كيانات دينية مرسومة بدقة واتقان ، وهو ما دلت عليه الإحصائيات والاستطلاعات الميدانية التي تصف نتائجها تلك التراجعات والخسارات المرّة داخل المجتمعات الأوروبية .
والدراسة التي أجريت مؤخراً تشير نتائجها في 15 بلداً أوروبياً على اختلاف ثقافات مجتمعاتها ، إلى تصاعد الشعور بالهوية الدينية “المسيحية” فيها وبصورة خاصة لدى الشباب الأوروبي ، مما يشير بأن الهوية الدينية باتت تحل وبكل وضوح محل الهوية الوطنية بسبب التحولات في الساحة الدينية العالمية ونتيجة لبروز مظاهر العنف والتطرّف تحت رايات الدين . ورغم أن الدراسة أبرزت بأن غالبية هؤلاء الشباب ليسوا متدينين بالمعنى الحقيقي ، أي لا يرتادون الكنيسة ، بل وحتى أنهم لا يؤمنون بالألوهية ، إلا أن شعورهم بالانتماء الديني هو الطابع الجامع و المميز لهم ، وفي ذلك تحول نوعي خطير وغير مسبوق على مدى النظرة الاستراتيجية البعيدة التي تشير إلى التخطيط للبدء بحروب (صليبية) جديدة كشف عنها الرئيس الأمريكي الأسبق (جورج بوش الابن) في خطابه الذي سبق الاحتلال الأمريكي لأفغانستان و العراق بأيام . وتكشف الدراسة أن الشعور بالهوية الدينية المسيحية لدى الأوربيين بات ينعكس في مواقف الأفراد ، سواء كانوا مسيحيين متدينين وممارسين أم لا ، تجاه قضايا الإسلام والهجرة ، لتبرز نفس المواقف من اليهود نتيجة الإبادة الجماعية التي تتم ممارستها على الشعب الفلسطيني في (غزّة) اليوم .
ففي المملكة المتحدة (بريطانيا) يرفض 23% – من أصل 1841 شخصاً شملهم الاستطلاع – يرفضون استقبال شخص يهودي في بيوتهم ، وترتفع هذه النسبة في إيطاليا إلى 25% ، بينما تنخفض في ألمانيا إلى 19% من أصل 2211 شخصاً موافقتهم على استقبال شخص يهودي مما يمكن اعتباره كردِّ فعلٍ على التعاطف مع الأوكرانيين الذين يُشهِرون تمسكهم وانتماءهم العنصري إلى (النازية) ، وكذلك في إسبانيا كانت النسبة فيها 13% وفي البرتغال وإيرلندا 18% . أما النسبة الأعلى التي ظهر فيها نوع من التسامح تجاه اليهود فقد كانت في هولندا ، حيث أعلن 96% من أصل 1497 ممن شاركوا في الاستطلاع أنهم لا يرون أي مشكلة في استقبال شخص من الديانة اليهودية داخل أسرهم .
أما فيما يتعلق بالديانة الإسلامية ، فيرى 49% في جميع البلدان التي شملها الاستطلاع أن الإسلام لا يتوافق مع القيم والثقافة الأوروبيتين . وترتفع هذه النسبة في ألمانيا إلى 55% من المسيحيين “المتدينين” وإلى 32% من غير المتدينين ،فيما يرفض في المقابل 29% من المسيحيين في جميع هذه البلدان استقبال شخص من الديانة الإسلامية داخل بيوتهم . وقد كانت الملاحظة الأبرز في أن أغلب المشاركين في هذا الاستطلاع ليس لديهم إلماماً كافياً بالديانة الإسلامية ، وحتى أن نسبة غير قليلة منهم لايعرفون أي شيء عن الإسلام رغم احتكاكهم اليومي بالمسلمين المقيمين بينهم . وكانت النقطة الأكثر إثارة للانتباه أن نسبة كبيرة من الذين شملهم الاستطلاع تبرز لديهم المواقف السلبية من المهاجرين القادمين من منطقة الشرق الأوسط ، تحديداً ، وهذا بسبب الاضطرابات التي تشهدها المنطقة وبروز النشاط الإعلامي الهائل عن الجماعات (الإرهابية) التي ساهمت بشكل اساسي وواضح في ترسيخ الصورة المظلمة عن الإسلام في المجتمعات الأوروبية كافة ، حيث تؤكد نتائج الدراسة أن 26% من المسيحيين الذين يرتادون الكنيسة ، يرون بأن المهـاجرين القـادمين من منطقة الشـرق الأوسط ليسوا محل ثقة ، بينما يرى 40% منهم
تابع استخدام الدين ..
بينما يرى 40% منهم أنه يتعين العمل الجاد على الحدّ من معدلات الهجرة إلى أوروبا . ومن الطبيعي أن تعكس هذه الأرقام ذلك التطور النوعي الذي طرأ على الوعي الأوروبي في العقد الأخير نتيجة الضخ الإعلامي الصهيو-أمريكي الداعي لافتعال الصدام مع الإسلام المتولد عن مظاهر العنف والقتل التي شهدتها أعداد من البلدان الأوروبية بعد إحتلال أفغانستان وتظهير زخم الصراع (الديني) مع إيران ، والسعي دائماً في تأكيد اتهامهم بافتعال التفجيرات الإرهابية نتيجة عدم انضوائهم تحت المظلة الأمريكية والغربية و دعمهم لحركات المقاومة ضد الاحتلال اليهودي في فلسطين إلى الحدّ الذي بات يتحدث عن صحوة الضمير الديني المسيحي(الصليبي) في الغرب . إلا أنه يجب التنبه بأن هذه الأرقام لا تخلو أبداً من الدلالات السياسية المسبقة ، ذلك أن اليمين المتطرف في أوروبا ، الذي يشهد تصاعداً متسارعاً بات يتغذى من هذه التحولات التي تحصل على مستوى الوعيين (القومي والديني) لدى الشباب الأوروبي بصورة جلية وواضحة ، وبأن الكاثوليك في فرنسا يميلون إلى التصويت لحزب “الجبهة الوطنية” الذي تتزعمه اليمينية المتطرفة (مارين لوباين) والتي لاتخفي مواقفها العدائية المتطرفة تجاه الإسلام والمسلمين والمهاجرين ، والعرب منهم بصورة خاصة ، وذلك ما يؤكد صعود الهوية المسيحية في المشهد السياسي الفرنسي خصوصاً ، وفي السياسة الأوروبية بوجه عام . حيث تظهر الأرقام أن ما بين 20% و25% من الكاثوليك الفرنسيين يتبنون مواقف “الجبهة الوطنية” ، وهو ما يحذر منه (كريستيان دولورم) ، قسيس مدينة “ليون” الذي بات يرى أن خطر هذا الصعود للهوية الدينية المسيحية لدى الناخبين الفرنسيين يهدد العلمانية ويقوّض جهود ما أطلقوا عليه اسم (حوار الأديان) الساعي لإحلال تعايش (المحبة والسلام) في العالم كله .