بَينَ العَجْزِ و الوَهْم ..
قصة قصيرة
د.علي أحمد جديد
مثلما أن الساعة تتقَّدُم ببطءٍ .. ودونَ أن تُسرع …
بثقة تلتهم الأيام ، والسنوات.
والشهور تتجمّع وتنسلخ عن الزمان بعد أن تَفْقَد ألوانَها..
ترحلُ نحو الوراء .
والدقيقة ..
تُطلقُها أكثَرُ المدفعية صُموداً .
وفجأةً , لا يبقى لرحلينا إلا سنة ..
شهرٌ .. يومٌ واحد ..
ويطالُ الموتُ التقويم .
بابلونيرودا – شاعرتشيلي
مضى على استئجاري الشقّة التي أسكنها أكثر من ثلاثة شهور ، منذ بدء العام الدراسي الأول لي في (كلية الحقوق) التي دخلتها نزولاً عند رغبة والدي .. فهو يأمل بعد تخرجي أن أكون قاضياً ، أو محامياً ناجحاً ، أو واحداً من جهابذة القانون المعروفين .
استأجر لي الشقة التي أسكنها في حيٍّ هادئ ، وبعيدٍ عن ضوضاء المدينة وعن صخبها ، لأتمكن
من التركيز في دراستي ، كما يرى والدي الذي تطوّع بدفع إيجار سنة كاملة مقدماً لصاحب الشقّة، وغادَر إلى البلدة بعد أن أملى عليَّ لائحةً لا نهاية لها من الإرشادات والنصائح .
ثلاثة شهور بحالها وأنا أركّز في كتب القانون استعداداً لدخول امتحان الفصل الأول من عامي الدراسي الأول في الجامعة . ثلاثة شهور كاملة انقضت كومضة البرق ، وأنا غريب تماماً عن كل جيراني
من سكان العمارة التي فيها شقتي المُستأجَرة ، إلا عن طالبةٍ جامعية ، مثلي ، تعمل محاسِبةً في إحدى المؤسسات الحكومية وسط المدينة الواسعة وفي بؤرة ضجيجها . كنا نتبادل التحية على سلّم العمارة أثناء مصادفتنا بعضنا في الصعود أو في النزول ، والتقينا في (كافتيريا) الجامعة مراتٍ عديدةً دون ترتيب ُمسبق ، وقامت فيما بيننا صداقة جيدة وبريئة أساسها الصراحة و الصدق ، و الاحترام .
فكرت أن أزور صديقتي الجامعية بمكتبها في المؤسسة الحكومية ، وكانت قد وجهت لي الدعوة لزيارتها مراراً وبإلحاح ، فذهبتُ إليها . وعلى باب المؤسسة الرئيسي فوجئت بواحد من أخوالي هناك ، واكتشفت أن ثلاثةً من أخوالي يعملون في نفس المؤسسة الحكومية التي فيها جارتي وصديقتي الجامعية ، وبعد تبادل القبلات و المجاملات مع خالي ، أخبرني بحماسةٍ ظاهرةٍ أنه نجحَ لتَّوه في الحصول على استراحة طبية لمدة أسبوع بعد انزالقه ووقوعه على درجات سلّم
ّالمؤسسة . إنه يتكلم كثيراً دون استراحة أو توقف . الوقت ينقضي بطيئاً و مُملاً ، وتتآكلُ لحظاته بينما يواصل خالي حديثه دون متابعةٍ منّي أو اهتمام ، وعقارب الساعة على الجدار في صدرِ ردهة الاستقبال تزحف متثاقلةً ، وبتَذاكٍ مُفتَعَل تساوي بين اللحظات التي تفترسها وبين العدم . يقلقني انتظار جارتي الجامعية لي في مكتبها بعد أن تأخًرتُ عليها وّوقعتُ في مصيدة خالي المُصاب وفي شِباك ثرثرته . وبالكاد تخلّصتُ منه عندما أطلّت جارتي برأسها من باب مكتبها تتفقد وصولي بعد تأخري عليها . ولما وصلت إليها َحيَّتني بأسفٍ بالغٍ واعتذرتْ عن استقبالي في مكتبها لانشغالها المفاجئ ، لكنها طلبت مني انتظارها عند الجمعية التعاونية غير البعيدة كثيراً عن مبنى المؤسسة .
صباح اليوم , تَلقيتُ رسالةً من والدي . إنه يُصرُّ على التواصل معي من خلال الرسائل العادية وبأسلوبه التقليدي عبر مؤسسة البريد ، ويرفض شراء جهاز هاتفٍ خليوي حديث ، كما يرفض استخدامه للتواصل معي أو مع غيري . كانت رسالته مليئةً بالنصائح التي تتخللها عباراتٌ من العتاب و التأنيب . عاتبني في البداية على تقصيري في مراسلته ، وأنَبَني على أمورٍ مُخجِلة قال في رسالته أنها وصلته عني ، وأنا لا أعلم شيئاً عن تلك الأمور التي يتحدث عنها ، ولا علاقة تربطني بأحداثها .
أنَّبني بشّدة على علاقتي الآثمة – كما وصفها – مع صديقتي الجامعية ، وحَثَّني على قطع هذه
العلاقة ، المخزية ، لأنها تُلهيني عن التركيز في دراستي . كان يؤنبني في رسالته وكأنني طفل صغير لم يدخل الحضانة بعد !!..
تُرى مَنْ أخبرَهُ عن صديقتي الجامعية ؟!!.. لست أدري . لكن الذي تَطوَّع بنقل أخباري إليه لم يُخبِرْهُ أن صديقتي الجامعية فتاةٌ محترمةٌ جداً ، وعاملةٌ تعتمد على نفسها وعلى جهدها الخاص لتأمين نفقات دراستها بعملها الشريف ، وهي أفضل من كثيرين من الشبان – مثلي – الذين يعتمدون على آبائهم في مصاريف دراستهم . كذلك لم يُخبرْهُ ناقلُ الأخبار أن علاقتي بها لا تَتعدَّى الصداقة البريئة , وأني لا أجتمع بها إلا صدفةً في (كافيتريا) الجامعة ولا نلتقي إلا في المكتبة المركزية للدراسة هناك في انتظار محاضرة ما . المهم أن ناقل الخبر قد نقل سوءَ ظَنِّه إلى أبي الذي ظلمني دون أن يَستجليَ حقيقة ما يصله من الأخبار عني .. ويقيني أَنْ يشعرَ المرءُ أنه مظلوم ، خيرٌ له من أن يكون ظالماً , رغم ما يعانيه من تَلَقّي الظلم على نفسه .
وقفتُ أمام مبنى الجمعيةالتعاونية أنتظرُ صديقتي كما طَلَبتْ مني . كان ثمة أناس كثيرون غيري ينتظرون مثلي عند مبنى الجمعية التعاونية .. بعضهم يتمشى أمام بابها ، وبعضهم محاولاً استجداءَ الصبر وهو يدخِّن سيجارته ، وآخرون ينتظرون في سياراتهم المركونة . ينتظرون .. وينتظرون ، غيرَ أني أختلف عن كل المنتظرين ، لأني بلا سيارة ، ولا أدخِّن ، وثابت في موقعي أنتظرها ، وحتى أني لا أتمشى ولا أغادرُ مكاني .
انتظارٌ هنا عند مدخل الجمعية التعاونية ، وانتظارٌ إلى جانب مبناها الكبير ، وانتظارٌ في السيارات ، وانتظارات غيرها في أماكن مُتعدِّدة ومختلفة . ثمة انتظاراتٌ جميلة وهادئة ، وثمة انتظاراتٌ أخرى مُقلِقة ومضطربة . وفي عمومها واختلافها تبقى جميعها مُملةً وقاتلة . تقتل
اللحظات وتحرقها دونما دخان يشيرُ إلى ذلك الاحتراق . وأنت تنتظر ، يحترِق الدم في عروقك وتُحسُّ لهيبَه يغلي في رأسك …
وأنت تنتظر ، تتأمل القادمين باتجاهك ، وتتفرّس الوجوه … تتفَّحصُ الملامح و العيون دون أن ترى فيها طَيفَ مَن يَقتِلُكَ انتظارُه . لقد تأخّرتْ جارتي الجامعية . قال والدي أن أقطع علاقتي بها ، وأنا لا أحبُّ أن يَتدخّل أحدٌ في شؤوني حتى لو كان أبي ..
ليتني كنتُ أخذتُ منها رقم جَوّالها الخليوي حتى أتصل بها وأطمئن إلى أنها لم تَنْسَ أنني أنتظرها هنا . أنا لم أحصل حتى على رقم هاتفها بعد ، ويقول والدي عن علاقتي بها أنها آثمة !!!! ..
بعد مرور وقت أحرق أعصابي بنيران تدميره ، أشرقت جارتي الجامعية تتمايل في مشيتها ، وبقوامها مثل عارضات الأزياء بخطواتهن المرسومة و المدروسة تماماً . حيَتْني مبتسمةً وتَجاهلتْ ، متعمدةً ، أن تُبديَ أيّ اعتذار عن تأخّرها حتى لوكان تلميحاً . وأنا بدوري نسيتُ كل لحظات انتظاري وانفجاري .. واحتراقي في الانتظار . دخلتُ وراءها صاغراً إلى صالة الجمعية التعاونية الكبيرة . كنا نجول في الصالة الفسيحة ونَتنقَّلُ محاطين بالرفوف المنصوبة بين الأرضية اللامعة وبين السقف ، وجارتي تنتقي ما تحتاجه وترميه في الَسلّة المعدنية التي حَمّلَتْني إياها فور دخولنا الصالة .. لم أدقق في الأغراض التي كانت تتفحصها وتختارها لتُحمِّلني إياها ، غير أنه كان لي شرفُ حَمْلِها صامتاً دون أيّ احتجاجٍ مني أو تعليق .. – قال أبي أن أقطع علاقتي بها – !!. وبعد أن بدا عليَّ تَعبُ حَمْلِ أشيائها المتراكمة في السلة المعدنية تَكَّرَمْتْ جارتي الجامعية وتواضعتْ بالتوقف عن تكديس أشيائها في السَلّة بين يديّ وتوجّهتْ نحو الصندوق لتدفع ثمن مشترياتها ، وخرجتُ أنا لأحضر سيارة أجرةٍ تنقلنا مع الأغراض إلى الحيّ .
بعد ركوبنا سيارة الأجرة وقبل وصولنا إلى الحيّ بقليل ، استأذنتها بالنزول من السيارة للقاء صديقٍ لا وجودَ له ، وتَذرَّعتُ بأني سآخذ منه مُلَخصَ محاضرةٍ فاتتني وهي ضرورية لأن الامتحانات باتت على الأبواب . والحقيقة أني اخترعت ذلك لسببين إثنين . الأول أنه هالني الرقم الذي وصل إليه عدّاد سيارة الأجرة ولم أكن على إستعدادٍ لتسديده من مصروفي الشخصي ، كما لم أكن مضطراً لذلك . والثاني ، أنني نزلُت تحاشياً لكلام جارتنا التي تسكن الشقّة المقابلة لشقتي في العمارة .. فهي إمراة مُطَلَّقة حولاء وثرثارة تقيم مع أولادها الثلاثة ولا تكفُّ عن مراقبة سكان الحيِّ كلهم .. سواء من الشرفة ، أو من النافذة ، أو من منظار الباب . تَتسقَّط أخبارهم وتَتبرَّع بنقلها مجاناً إلى نساء الحيّ الأخريات في سهرات سمرهن . وأظنها أصيبت بالحَوَل لكثرة تثبيت إحدى عينيها على منظار الباب ومراقبة العابرين أمامه صعوداً و نزولاً . المهم أنني نزلتُ من السيارة وتخلّصتُ من الأمرين معاً .
أخبار دراستي سَيئةُ جداً ولا تُسرُّ أحداً يسمعها .. وهي كما توقّعها والدي في رسالته تماماً ، بلا فهمٍ ولا تركيزٍ .. ولا استيعاب .
فبعد أن انتهيتُ من قراءة الجزء الأول من (القانون الجزائي) ، انتقلت إلى (قانون التعاون) .. وكأنها وجبة طعام غير شهي ، وأنا مجبر على تناول كل أصنافها وبلا استثناء ..
بدأت قراءة (قانون التعاون) من الصفحة الأولى و حتى الصفحة
الثلاثين منه . قرأتها كلها ، وأعدت قراءتها مراراً وتكراراً وكأنني حفظتها عن ظهر قلب ، ولما انتهيت من حفظها . اكتشفت أني قد أجهدت نفسي بحفظ مقدّمة الكتاب التي لا فائدة من حفظها ولا أهمية للاطلاع عليها ..
ولكن لا بدَّ لي من كتابة رسالة أردُّ بها على رسالة أبي وأدفع الظلم بها عن نفسي . رغم علمي ويقيني أني غير ملزم أو مضطر لدفع اتهاماته لي لأن الأيام كفيلة بكشف سوء ظنه بي ولأن الزمن خير مدافع عن حقيقتي , لكنني سأكتب له حتى لا يلومني أو يعاتبني كعادته .
أحضرت ورقة بيضاء ونظيفة إذ لا مَفَرّ من الكتابة إليه بعد تأنيبه الشديد لي في رسالته , وأنا لا أحب كتابة الرسائل في الأساس ، خاصة ، وأن الامتحانات تحاصرني باقتراب ساعتها مني ، وإذا أردت أن أكتب رسالة فلا بدّ من توفر الهدوء التام حولي .. هدوء المقابر ، وإلا فلن أستطيع الكتابة أبداً .
أطفات التلفاز ، ورحت أذرع الغرفة جيئة وذهاباً ، وأفكر كيف أبدأ الكتابة إليه ، وأبحث عن العبارات المنمقة التي تدفع اتهاماته عني . لمحت من خلال ستارة النافذة الشفافة الفتاة البدينة على شرفتها في العمارة المقابلة وهي تمشط شعرها تحت أشعة الشمس كعادتها كل الوقت . إنها ليست بدينة تماماً لكنها أكثر من ممتلئة . أكثر بكثير . كانت تمشط شعرها الأسود الطويل ، ويبدو أنها تستمتع بتمشيطه دائماً ولا تغادر شرفتها إلا فيما ندر . وفي كل مرة أحاول الخروج فيها إلى شرفتي أراها تعسكر في شرفتها ، فأُحجِم أنا عن الخروج خشية أن تلاحظ جارتي الحولاء وجودنا سوية على شرفتينا فتقوم بتأليف أحداثٍ من مخيلتها وتنقلها مفبركةً إلى نساء العمارة و سكان عمارات الحيّ ، لأُصبحَ أنا بطل أمسيات نساء الحيّ وموضوعَ مسامراتهن المسائية ..
وبلا تفكير مني أزحت الستارة ولوّحت لها بيدي من داخل الغرفة . ومن فورها ردّت لي التحية و كأنها كانت تنتظر ذلك مني منذ زمن . أشرتُ لها بالحضور إلى شقتي فلم تمانع وأبدت موافقتها بحماسة . ولكن ، ماذا عن الرسالة التي اتهيأ لكتابتها وأردّ بها على رسالة والدي !!..
لابأس ، سأعود لكتابتها فيما بعد .
أعدت ترتيب الغرفة من جديد . الكتب ، والأريكة اليتيمة الوحيدة ، والأزهار البلاستيكية التي لا رائحة فيها و لا أريج لها . ثم أقفلت باب غرفة النوم بإحكام كي لا تسيءَ ظنها بي فأنا أشعر بالارتباك وأستعد لاستقبالها ، لأنها المرة الأولى التي أدعو فيها فتاة إلى شقتي ونكون فيها منفردين وحدنا .
بعد قليل ، سمعت نقراً خفيفاُ على الباب ، هاهي ذي قد وصلت وبأسرع مما كنت أتوقع . انتابتني قشعريرة تهزُّ كل أوصالي ، فحَبَستُ أنفاسي في صدري وتَسمّرتُ لا أبارح موقعي !!..
لماذا ؟!.. لماذا دعوتها لزيارتي وأنا في الشقة وحدي ؟!..
و الأهم ، لماذا أُحجِمُ عن فتح الباب لها ؟!..
لست أدري ، ولم أجد إجابة مقنعة لتساؤلي . طرَقَتِ الباب ثانية ، فلم أتحرك من مكاني ، فعاودَتْ تدق للمرة الثالثة بطرقات أشد تنبئ عن غيظها ، وأنا واقف أصغي إلى دقات قلبي تعلو حدّتُها في أذنيّ .
توقف الطَرقُ على الباب ، وساد السكون لفترة . ثم سمعت خفق كعبي حذائها مغادرةً وهي تنحدر
على درجات السلم الرخامية . تنفستُ ملء صدري بارتياح ، وفجأة ، هرعتُ إلى المنضدة التي تتوسط غرفتي ورحت أخط رسالتي إلى والدي بلا توقف حتى أنهيتها . بعد ذلك بحثتُ عن مغلّفٍ لرسالتي .
أعياني البحث و أنهكني .. بين الكتب وفي الأدراج وعلى أرفف الخزانة ، حتى عثرت على مغلف وحيد ويتيم .
كتبتُ عليه عنوان والدي بخط تعمّدت أن يكون جميلاً ، ولائقاً .. وأنيقاً ، وألصقت المغلّف بإحكام .
أحسستُ بأني قد أنجزتُ عملاً جباراً ، وأزحتُ عن صدري عبئاّ رهيباً وثقيلاً .. ثقيلاً جداً . وبعد لحظات ، لمحت الرسالة المطوية مستلقيةً على جانب المنضدة تحدجني بتَشَفٍّ و بشماتة . وبدأتُ رحلة البحث عن مغلّفٍ جديد .. ومن أين لي المغلف الجديد ؟! .
حتى هذه اللحظة ماتزال أخبار دراستي على حالها دون تغيير وها هي الأيام تنقضي مسرعة ولا تلتفت وراءها لترى أمثالي الذين هم بحاجة شديدة للوقت ويتوسلونها أن تبطئ من هروبها نحو العدم ، بينما رياحها العاتية تنال من وريقات التقويم المتساقطة في هاوية حيث لا أمل من عودتها … ولا رجاء . وكم هي المرات التي حاولت فيها تعويض جزءٍ مهما كان بسيطاً مما فاتني
لأنجز شيئاً قد يساعدني على خوض غمار الامتحان القادم قريباً ، لكني لم أحصد من محاولاتي سوى العجز ، ولا أُدركُ سوى الفشل يحاصرني .
حاولتُ اليوم أن أهرب من عجزي ، وأن أقهر فشلي وأكسب الوقت المتبقي . فجلست إلى كتبي
لأبدأ الدراسة بعزيمة جديدة وقوية ، كان الوقت يمضي بانسيابٍ وارتياح ، وكلما ازدادت ساعات جلوسي إلى الكتاب ، يغمرني شعورٌ كبير و غريب بالارتياح . غاب عن بالي كل شيء ولم يكن في ذهني سوى الإرادة و التصميم على التهام المعلومات القانونية من كتبي ، وتَجاوزِ الصفحات التي أخوض معها تحدياً غير محدود ولا انتهاء لآفاقه ، حتى قطعتُ شوطا لا أصدّقه وأحسد عليه نفسي . انتقلت إلى كراس أسئلة دورات الامتحانات السابقة ، وتمعنت طويلاً بأَّول سؤال منها ، ولكني لم أصدّق أبداً حين اكتشفت بأنني لم أعرف له أي إجابة حتى لو كانت من بعيد .. ياللهول !! كل الساعات التي أهدرتها في دراستي لهذه المادة لم تسعفني في الإجابة على سؤال واحدٍ وغيرِ غريبٍ عن ذهني لأني سبق و قرأته عشرات المرات أثناء تصفحي كّراس الأسئلة الذي اعتقدت أنه سيكون صديقي المُعين . نهضت من مكاني وكالمسعور رحتُ ألفُّ في غرفتي حتى تعبت . تهالكتُ على الكرسي وفي داخلي قرار بمواصلة التحّدي الكبير ، وبعدم استسلامي لأيٍّ من العجز أو للفشل ، وسأبدأ من جديد .
حاولتُ ، بضراوة ، أن أبحث عن سببٍ يقنعني بفشلي في استيعاب ما أقرأ من منهاج الدراسة بالتحديد ، ولم أجد سوى أنني أُسرِعُ في حَشوِ المعلومات داخل ذهني دون ترتيب ، كقطنٍ في وسادة ، بسرعة ودون رَويّة .. لابُدَّ إذاً من التركيز و الهدوء للفهم و الاستيعاب اللازمين لتجاوز الامتحان وقهر عذاباته . نهضتُ أعاودُ البحث عن مغلّفٍ لرسالتي العارية فوق الكتب ، ولا تفارقني حيرتي عن عجزي في الفهم السليم لِما أقرأُ في كتبي ، وعن فشلي في استيعاب ما يدور حولي وفي داخلي .. وكذلك لم أجد مغلّفاً يحتوي رسالةَ الردِّ على والدي .. فقررتُ القيام بنزهة قصيرة تساعدني على التَخلّص من توتري وعلى الاسترخاء الداخلي وقهر عجزي المقيم والانتصار على فشلي .. وخرجت .
كانت الشمس لطيفةً ، دافئة ورائعة ، والنهار غاية في التألق و الجمال .. وفجأة ، انتابني شعورٌ مَقيتٌ وقاتلٌ بالوحدة يكبَّلني وأردتُ مغادرة الجمال الربيعي الذي يحيطني اخضراره و العودة إلى البيت لمواصلة الدراسة بدلاً من إهراق الوقت المتبقي للامتحان دون فائدة . ولكني تابعت نزهتي ، وحدي ، ودرتُ في جولة بين الحقول القريبة من بيتي ، و الصامدة في وجه البناء السرطاني الذي يلتهم الأراضي بلا شبع للعمران ودون توقف . كان اخضرار الحقول القريبة من بيتي مرتعاً جميلاً لغناء العصافير ولرقص فراشات الربيع المُلوَّنة ، اعتليتُ تلّةً احتَّلتها الأعشاب و الزهور الربيعية في غفلةٍ منها .. وانتصبتُ على قمّتها بعض الوقت أستَقبِلُ النسمات بصدري ، وأتلقى دفقاتٍ دافئة من أشعة الشمس . ثم ، انحدرت كارهاً نحو الجهة الأخرى في طريقي إلى البيت كي أواصل الدراسة بعد متعة النزهة و التجوّل في مراتع الخضرة وتحت الشمس . ولما وصلت إلى الطريق العام الفاصل بإسفلته بين الحقول وبين الحيّ الذي استأجرت فيه شقتي ، رأيت أمام خطواتي خطين ينزفُ سوادُهما على الإسفلت بلا انقطاع كالحزن ، وكالألم . انقبض صدري بشدة وأنا أتبع لونهما الداكن فوق الإسفلت الأسود بنظراتي حتى انتهيت إلى رجل مُسنٍ ومعه طفل صغير مُمَدَّدان تحت عجلات شاحنة كبيرة ، وثمة لفيف من الناس حول الشاحنة يشيرون إلى رأس الطفل القابعة تحت العجلات المستديرة و الضخمة بلا أثرٍ لها ، وإلى نصف الرجل المسن العلوي البارز وانسياح الدم بوضوح . ثار الغثيان هائجاً في أعماقي ورأيت الحياة في تلك اللحظة سخيفةً وحقيرةً بكل ما فيها من المفاجآت . فهي تبدأ دون إرادة منا .. تُغرينا حتى نتمسك بها وبمباهجها المزيَّفة لتنتهي فجأة دون إنذار !!.
كلُّ شيء في بيتي يبدو لي غريباً و أسوَدَ مُملاً . أقلّب صفحات الكتاب أمامي دون أن أقرأ كلمة
َفيها ، ويطبقُ الضيق على صدري بقسوة حتى ينبثقَ الصداع في الصدغين وبين أعلى العينين . كأنه نارٌ بدأت تفترس تلافيف دماغي . وجبهتي تتفصد عرَقاً بارداً دون أن أشعر بالدفء في جسدي أو في أيّ شيء حولي .. كم هو حقيرٌ هذا العالم الذي نحن فيه .. وكم هو ضَيّقٌ على رحبه حتى الاختناق .. وتافه بكل مافيه من مباهج كاذبة وخادعة .. أشعر أن وجودي فيه تافه وكذبة كبيرة لا معنى له ، و لاحقيقة فيه ..
أنا ، أحبُّ الرسم والآداب و الموسيقى و الفنون ، ووالدي يريدني محامياً مشهوراً لا يكفُّ عن اللفّ وعن الدوران في البحث عن ثغرات القوانين لاستثمارها و استغلالها . يتدخل في حياتي وفي أدقّ خصوصياتي دون مَلل ، ولا يكفُّ عن نصائحه و توجيهاته ولا عن تأنيبه لي حتى في رسائله وهو بعيد عني كي لا أشعر بالتحرر من قيوده :
( اِحذَر الناس ، لا تَتَلَّهَ بالرسم ، إبتعد عن الفتيات .. اقطع علاقتك بفلانة) ..
قائمةٌ من التحذيرات ، طويلة ولا تنتهي حتى سئمتُ من كلِّ شيء وكرهتُ كل شيء .. سئمت من رسائل والدي ومن نصائحه .. وسئمت من نفسي ومن عجزي ومن فشلي الذي يلاحقني ..
وكرهتُ حياتي كما أكره الكتب التي أدرسها ، وكرهتُ القانون نفسه بكل بنوده وتفرعاته . يحاصرني عجزي ويمنعني عن إنجاز أي شيء ، وعن تحقيق رغبة والدي . وحتى عن الفهم وعن الدراسة والاستيعاب .. وحتى عن الحبّ وعن التواصل مع الناس بعمومهم .
الصداع يَتمدَّدُ وينتشرُ ليبدأَ نَخرُه في رأسي وتكاد جمجمتي أن تنفجر ، وصورة الطفل و الرجل المسن تحت عجلات الشاحنة الضخمة و المستديرة السوداء ما تزال تتشبت في مخيلتي وتأبى أن تفارقني . نهضت وتوجهت إلى الحمّام . وقفت أمام المرآة ورأيتها تعكس صورة شخصٍ لا أعرفه وبلا ملامح .. فتحتُ الخزانة الصغيرة وتناولت قرص (الأسبرين) محاولاً إخماد الصداع المتأجج في رأسي وهو يتابع طَرَقاته الشديدة فيه . خرجت من الحمّام لفترة ثم عدت وتناولت قرصين آخرين .. دون جدوى . لم يتوقف الصداع .. ومازال ينهش في دماغي ويلهبها بسياطه المؤلمة القوية و الخفية . عدتُ إلى الحمّام مجدداً ، أخرجت علبة (الأسبرين) وتناولت كل أقراصها مرةً واحدة ..
“يا إلهي , ماذا فعلتُ أنا بنفسي !! ولماذا” ؟!..
بدأ حلقي يجفُّ مثل صحراء يابسة ، وثمة طنينٌ شديدِ يتواصلُ هَديرُه في أذنيَّ بقوة . لم أعد أسمع سوى الطنين في أذنيّ ونبضات عروقي تنقر بتناغم فيهما . ضَعفٌ ووَهنِ يفتكان في جسدي وفي أطرافي وقد راحت البرودة تزحف حثيثة نحوها . توجهت نحو المرآة من جديد وحدقت فيها محاولاً التركيز في ملامحي .. كانت نظراتي زائفة كلياُ وتفشل أن تُريَني أيَّ شيء بوضوح ، لكني تأكدت أن وجهي يزداد اصفرارُه شِدّةً وتمُّدداً ، تماماً مثل الصفرة التي كانت تعلو وجه الرجل المسنّ تحت عجلات الشاحنة وتنحتُ ملامحه ، بينما تخبو أنفاسي وتَضعُف حتى أكاد أختنق . وَمَضَتْ في ذهني صورة جارتي الجامعية بعينيها اللامعتين ، ففتحت باب شقتي ، ونزلت أتسحّبُ بصعوبة إلى بيت الحسناء صديقتي الجامعية . طرقت بابها ، ثم ….
فتحتُ عَينيَّ المُتعبتين لأجد صديقتي الجامعية تجلسُ قَلِقَةً على الأريكة إلى جانب السرير في غرفة نومي . كان القلق ممتزجاً
بالحيرة وبادياً على وجهها وهي تمسك بيدي ، وفي الجهة المقابلة وأمام وجهي مباشرة ، كانت المُطلَّقة الحولاء تقف إلى جانب الطبيب وتراقبنا أنا وجارتي الجامعية . كانت تراقبنا و تبتسم ، وكأنها سعيدة بحصولها على قصتنا معاً لتؤلّف أحداثها وترويها لنساء الحيّ بطريقتها . استفزتني ابتسامتُها جداً وأثارت في نفسي غضباً وثورة وأنا أراها واقفةً تبتسم في مواجهتي ، وفي غرفة نومي . قلت لها بضعة كلمات لا أعيها و لا أتذكرها ، تَمَلمَلتْ هي في وقفتها إلى جانب الطبيب الكهل ، ثم قالت بدورها شيئاً مُقتَضَباً لم أسمعه بوضوح ، ولم أُعرِهُ اهتماماً لأني لم أفهم ما قالته وكأنها تهمس لنفسها .. لكن الانزعاج الشديد مما قلتُه لها أخفى ابتسامتها عن وجهها ثم خرجتْ من الغرفة وتبعها الطبيب مغادراً بعد أن أعطى تعليماته المُشدَّدَة وأوصانا الالتزام الدقيق بها .
لما بقينا وحدنا ، جارتي الجامعية وأنا ، نَظرَتْ إليَّ طويلا بعينيها اللتين كنت أفرحُ بالأمس للمعانِهِما الغريب .. لكنني وللمرة الأولى لم أرَ فيهما ماكنت أراه من قبل .. وللمرة الأولى أيضاً أراهما عاديتين وسطحيتين لا عمق فيهما و لاميزة محددة .. و لا غرابة . وكأنهما ليستا ذات العينين اللتين كان الوَهْمُ الخادع يَشدُّني إليهما من قبل .. كما أنهما ليستا مختلفتين عن غيرهما من عيون الفتيات الأخريات ، وحتى أنهما لاتختلفان عن عينيّ جارتنا الحولاء في شيء !!.
جلستُ متثاقلاً في سريري ، وسألتها عن مُغلّفِ رسالةٍ تعيرني إياه لأضع فيه رسالتي إلى والدي .. فأطلقتْ ضحكتها الهادئة ، وانتبهتُ بدوري أنها ما تزال تمسك بيدي وهي تضحك .. سحبتُ يدي من بين يديها ورفعتها إلى شعري أتظاهر بحكة في رأسي كي لا تشعرَ بالحرج ، ثم أدرتُ وجهي نحو الجهة الأخرى وأنا أخبرها بحاجتي الشديدة للنوم ، النوم العميق .. العميق ، و العميق جداً . دفنتُ رأسي على الوسادة وسحبتُ الغطاء فوق وجهي في إشارةٍ مني تطلبُ منها الإنصراف .