صمت الحياة
بقلم :ماهر اللطيف
كان كلما قفل إلى منزله، وولج فناء الدار في أي وقت من الأوقات، وجد زوجته منهمكة في محادثة هاتفية مع شخص ما، وهي تبادله البسمات والدموع والحنان والرقة والصياح وغيرها، ومهملة للمنزل وشؤونه.
وكان يستمع عبر سماعة الجهاز إلى أصوات رجال غالبا ونساء أحيانا، يؤثثون هذه اللحظات مع حرمه، و يثيرون غضبه وسخطه، ويزيدون من شكوكه تجاه زوجته التي قاسمته الحلو والمر عقودا وعقودا من الزمن ….
غير أنها كانت تنهي المكالمة بسرعة حالما تلمح خياله، ترتبك، يشيح ريقها وتبتلعه، تتغير ملامح وجهها ويتعرق جسدها، يتلعثم لسانها وتتداخل الحروف في حلقها، ترتعش يداها وتمسكه من ذراعه وهي تتظاهر بالفرح والسرور لرؤياه – وهو ما يزيد من غيظه و هيجانه -، تختلق الأعذار وأسباب هذه الحالة، تدّعي أنها كانت تتحادث مع فلان أو فلانة أو أخر من عائلتها أو عائلته، وكانت تطمئن عليهم وعلى صحتهم، وما إليه…..
لكن هذه الأمور لم يتقبلها الزوج ولم يقتنع بها ناهيك وأن هذا المشهد قد تكرر أكثر من مرة يوميا لأكثر من أسبوع، بل إن هذه المواقف كانت تنال منه ومن جسده وصحته بادئ الأمر، إلى أن بات يفقد توازنه لاحقا، فوعيه مؤخرا، مما جعل رجال الإسعاف يتدخلون لإنقاذ حياته باستمرار، فيبقى في المشفى أياما قبل أن يعود أدراجه إلى منزله وعائلته، ويجدد عهده مع هذا الموقف لاحقا دون سابق إنذار.
وصادف ذات مرة أن انهار وسقط أرضا مغشيا عليه بعد أن ضبط زوجته تتحادث هاتفيا مع رجل قطعت اتصالها به فور رؤيته، فغاب عن وعيه ولم يع ما يدور حوله مدة من الزمن قبل أن يشعر بأوجاع لا تطاق على مستوى الرأس خاصة وبقية الجسد عامة – جراء الوقوع وملامسة الأرض -، فبداية الرجوع إلى الدنيا واسترجاع وعيه تدريجيا، ويسمع أصواتا غريبة وكثيرة تتبادل الحديث مع زوجته – التي لا يمكن أن يتيه عن صوتها طبعا-….
ورغم أنه لم يتذكر ما سمعه ولم يفقه ما نًُطِق به في البداية تحت تأثير الآلام وثقل العينين اللتين رفضتا التجاوب معه لرؤية المتحدثين،إلا أنه تمكن في النهاية من سماع صوت زوجته وفهمه فهما قاطعا:
-…. وقد تحصلت الأسبوع الفارط على التحاليل وجميع النتائج التي أثبتت أنه مصاب بسرطان دماغي خطير تغلغل في كامل الجسد ولم يعد في الإمكان التصدي له أو القضاء عليه
– (صوت غريب) وهل علم زوجك بذلك؟
– (مقاطعة) طبعا لا، فقد اتفقت مع إخوته، أبنائي، وعائلتي يوميا على التكتم على هذا السر وإخفائه عليه لينعم بما بقي له من أيام في هذه الدنيا ولا يستسلم للمرض ويخنع له، فيزيده ألما على ألم…..
وهذا ما نزل عليه نزول الصاعقة وزعزع دواخله، وجعله يضطرب، يتوتر، تتعكر صحته مجددا، يفقد وعيه مرة أخرى وهو يتذكر كيف اصطحبته زوجته إلى المشفى منذ شهر ونصف وقام بالكشف الشامل عن جسده – ككل عام – وإجراء بعض التحاليل، وقد لاحظ تغير تقاسيم وجه زوجته حين استلمت النتائج منذ أسبوع، فتبدلت معاملاتها لاحقا، وكثرت زيارات أفراد عائلته وعائلتها، ودنا أبناؤه منه وتكاثر عطفهم وحنانهم وقبلهم، وغيرها من السلوكيات الغريبة التي لم يتعود عليها منهم جميعا سابقا.
كما تذكر أن تلك الأصوات التي كان يسمعها عبر سماعة هاتف زوجته كانت تعود إلى أهله وأهلها فعلا، وكانوا يتبادلون المعلومات عن مرضه وتطوره باستمرار – كما اعتقد هو -، وقد تسرع في الحكم عليها واتهامها بالخيانة وغيرها من التهم الباطلة التي زرعها فيه الشيطان الرجيم وحاول التفرقة بينه وبين هذه المرأة الفاضلة.
لذلك، أراد التكفير عن ذنبه وطلب السماح من شريكة حياته خاصة، والتمتع بالعيش مع الجميع فيما تبقى له من وقت فوق الأرض عامة، ….
لكن المنية لم تمهله تلك الفرصة وتمكنه منها، بل إنها استعجلت في قبض روحه وإنهاء حياته مباشرة بعد تلك “السقطة”، لتكون آخر مشهد له في “دار الممر” في انتظار مآل “دار المستقر”.