قراءة تأويلية في ثلاثية “بائع الصّرخات” للكاتب حمد الحاجي
بقلم الباحثة: منى أحمد البريكي.
تصدير “رفقا بالقوارير! ما أكرمهن إلا كريم،وما أهانهن إلا لئيم.”
مقدّمة
انبنت هذه القصص القصيرة جدّا الثّلاث على وحدة الخطاب .فقد صوّرها الكاتب في ثلاثة مشاهد منفصلة شكلا، لكنّها متّصلة المضامين، وجعل لها عنوانا وسمه ب “بائع الصّرخات ” وقبل ولوج العنوان كوصيد أوّل لهذه القصيصات أو كنصّ يمكن أن يكون موازيا لها ؛ ارتأيت أن أمعن النّظر في هذه اللّوحات الثّلاث كل على حدة.
☆ فانتاستيكا يدخل هذا النّصيص في إطار السّرديّة التّعبيريّة الشّعريّة بما فيها من تشاكل بين الشّعر والسّرد. فالسّرد هنا أفقيّ، رمزيّ، فيه إيحاء بلغة وصور شعريّة تنبثق عنه، وتتجاور مع جمل متواصلة، مبنيّة نثرا بتراكيب سرديّة تختلف عن الشّعر دون أن تبتعد عنه، تنأى عن الحكائيّة في رمزيّة تتلحف بغلالة النّثر الإيحائيّ في صور شعريّة تسلّط الضّوء على الحدث لحظة وقوعه ليكون وقعها أشدّ. (تحصد رقابا مهمشة تلوك قصص المستضعفين وتدهس حكاياتهم تدور ألواحها،تدور ..تظلّ للأبد ..مع الرّياح ..تدوووو …ووووووور) في انسجام واضح بين الأفعال المضارعة :تلوك؛تدهس،تدور ،تظلّ، وكلها تدلّ على الامتداد في الزّمن وبطلتها ناعورة الرّياح العجيبة التي اقتناها وليّ الأمر خصّيصا ليسيطر على رقاب المستضعفين والمهمّشين، فيجعلهم كالعجل المربوط إلى السّاقية يدور دون وعي بالعمل المنوط بعهدته. لذلك كانت ذات بعد فانتاسميّ كنائيّ ويمكننا القول إنّ هذه النّاعورة نسق حياة ومنهج فرضه المخطّط الذي أعلن إفلاسه عنوة، ليحكم قبضته على مصير الرّعاع الذين لا يعتبرهم شركاء في الوطن بقدر ماهم آلة إنتاج خرساء، ليس لها سوى أن تتوحّد في صوت واحد كعقارب السّاعة المضبوطة بإحكام. وبذلك تصبح اللّوحة الاولى تمهيدا للثّانية ثمّ الثّالثة. وتقودنا إلى
☆_القصّة المشهد:
إذا كان المشهد فنّيا هو “التّقنية التي يقوم فيها اختيار المواقف المهمّة من الأحداث ..وعرضها عرضا مسرحيّا مركّزا تفصيليّا.”*1* ممّا يجعل القارئ يشعر بأنّه مشارك في الحدث حين “يسمع عنه معاصرا وقوعه،كما يقع بالضّبط وفي نفس لحظة وقوعه، لا يفصل بين الفعل وسماعه، سوى البرهة التي يستغرقها صوت المتكلّم في قوله، لذلك يستخدم المشهد اللحظات المشحونة.”*2* لذلك صوّره لنا الكاتب في مختلف أبعاده الرّكحيّة، لنرى بالعين المجرّدة كيف يصبح فعلا طبيعيّا حميميّا بين زوج وزوجته حادثة اغتصاب توافرت كلّ أركانها من إضمار وتخطيط واستعمال وسائل معيّنة في إخراج سينوغرافيّ بارع، إذا سلّمنا بأنّ “السّينوغرافيا عمليّة تشكيل بصريّ /صوتي لساحة الأداء التي يشارك المتلقّي في تشكيلها بوجوده وخياله، فهي عمليّة إرسال مركّبة تقابلها وتكملها عمليّة قراءة مركّبة يقوم بها المتلقّي.”*3* كما “ترتكز على تأثيث الفضاء سيميائيّا وأيقونيّا.”*4*
فالصّورة السّينوغرافيّة هنا خطاب بصريّ ذو علامات دالّة يحلّلها المتلقّي لمعاضدة فهم الخطاب في كليّته من خلالها كجزء هامّ في العرض المسرحيّ، وفي هذا السّياق أشار “تاديون كاوزن”إلى وجود شفرات “يقلّص العالم الدّرامي فيها وهي الكلمة، النّغمة، تعابير الوجه، الإيماءة،الماكياج،تسريح الشّعر،الملابس،الدّيكور،الإضاءة، الموسيقى والصّوت.” وبذلك تتغيّر دلالة الأكسسوارات المستعملة في الدّيكور ( المناديل الورقيّة /الوشاح /الورق )لأنّ السّينوغرافيا تراهن على “ترويج ثقافة بصريّة لا كلاميّة، …إنّها تريد أن تجعل العرض مسكونا بالعديد من الإيحاءات التي تخترق فضاء الرّكح وجغرافيته.”*5* فقد استعملها الكاتب كعلامات بصريّة استعان بها لإيصال الخطاب إلى القارئ /المتفرّج وشحنها بحمولة دلاليّة سميأت المناديل الورقيّة التي تستعمل عادة للمخاط في وضعيّة مغايرة لسدّ فم الضّحيّة، ومنعها من الصّراخ وأصبحت أداة من أدوات الجريمة.أمّا الوشاح الذي تغطّي به المرأة رأسها أو رقبتها فقد أصبح قيدا للسّيطرة على جسدها وتعنيفها جنسيّا ( حينما كان يسحل بالكامل أنوثتها… )بينما استحال الورق وثيقة وقّعت عليها طلاقها (كانت قد أنهت بصمتها على الورق.. ) ويمكننا القول إنّ في تزامن الفعلين بين الفاعل والمفعول به، دلالة على تصميم المرأة التي كانت قبل الجريمة مستسلمة له تماما كالقمل الذي استباح شعرها وامتصّ دماءها (تفلي القمل بناظريها )دليل على ثورتها، وعدم انصياعها وتصميمها التّخلّص من الهوان والاستيلاب فهو وإن نجح في تقييد جسدها فيزيولوجيا، لم يستطع كبح جماح روحها وعقلها ورغبتها في التّحرّر منه بالطّلاق وكان في القفلة السّاخرة عدول عن العنوان (فهي حكاية تعنيف ) يشير إليها في كوميديا سوداء ليقول إن أبغض الحلال أفضل حل وأن العنف لا يمكن أن يكون بسيطا مهما كانت درجته أو مأتاه. ثم ينتقل بنا إلى مشهد ثالث عنوانه
☆ “ثلاث صيحات”
ليختم به فصول الثلاثيّة المسرحيّة التي كان فيها الفصل الأول مشهديّة وضعت القارئ في فضاء عام موبوء قادنا في المشهد الثّاني إلى العنف الجنسي واستيلاب المرأة في علاقة زوجيّة غير متكافئة، ليأخذنا المشهد الثّالث كخاتمة للطّرح الأوّل والثّاني مفادها أن هذا الرّجل الذي تحكّمت فيه أهواء نظام مستبدّ، قد غيّب تماما واستعاظ على واقعه بالعالم الافتراضي، ليصبح بدوره ضحيّة للذة مزيّفة يمارسها بأنامله من وراء شاشة جامدة. ويترك المسؤوليّة لزوجة تعاني عنفا اجتماعيّا، فتحترق يداها من أجل لقمة العيش ويكون الطّفل ضحية إهمال وتنصّل الأب من مسؤوليّاته ويمكن أن تعتبر الصّرخات الثّلاث تقنيّة من تقنيات الكتابة الصّوتيّة، لأنّ “الكتاية بصوت مرتفع بالنّسبة إلى أصوات اللّغة، ليست علما لوظائف الأصوات، ولكنّها علم للأصوات وإنّ هدفها لا يكمن في وضوح الرّسالة، أو في مسرح الانفعالات، إذ أنّ ما تبحث عنه من خلال منظور للمتعة هي الحوادث الدّافعة واللّغة التي يغطّيها الجلد،وهي النّصّ حيث نستطيع أن نسمع رنّة الحنجرة، وتزلّج الحروف الصّامتة ولذّة الحروف المتحرّكة.”*6 لتجعل الأنفاس،الحصى،الباب، الشّفاه،وحضور الخطم الإنسانيّ كلّه مسموعا في مادّيته،وفي حسّيته…وذلك لكي تنجح في حمل المعنى بعيدا جدّا.”*7*
وهذا بتقديرنا ما نجح القاصّ في إيصاله إلى قارئه باقتدار فتكون ثلاثيّته “بائع الصّرخات” دراماتولوجيا سرديّة بامتياز ك”فضاء من خيال،للغة حياة في حياة لغة،لا لشيء إلّا لأنّها مشغلة أدبيّة ذات مرجعيّات ذاتية في فنّ سرديّة الحياة.”كما يفسرها الناقد القدير مصطفى بالعوام. فهذه اللّوحات الثلاث وإن جاء فيها الطّرح في قالب تقريريّ، إلّا أنّه لم يخل من الرّمزيّة الدّالّة على خطاب يستنبطه المتلقّي، كلّ حسب أدواته في الفهم والتّأويل. وهذا يوصلنا إلى إشكاليّة العنوان الذي اختاره القاص ملخّصا للق.ق.ج الثّلاث. تغري القارئ بالغوص في القراءة لفكّ الارتباط بين البائع وهذه الصّرخات بما هي انفعالات تصدر لا إراديّا من الكائن الحيّ[الإنسان أو الحيوان ] عند الشّعور بالألم أو بالفرح أو للتّعبير عن التّلذّذ بمتعة؛ أضافها لفاعل لا يمكن أن نجده إلّا في الأسواق والمتاجر ليشحنها بدلالات إيحائيّة، فقدّم لنا في المتن كلمات مفاتيح تفسّرها، فالبائع ليس إلّا وليّ الأمر المفلس الذي لجأ إلى تسويق خطاب شموليّ مخادع لفرض سياسة القطيع التي تضمن له استتباب الأمن والتّحكّم في مصير العباد.
وأختم بالقول بأنّ هذه القراءة محاولة لا غير في خوض غمار ظاهرة نصّيّة “تظلّ أغنى من عشرات التّفسيرات،وتظلّ متعدّدة المعاني ،لا تمنح نفسها لتأويل واحد يمكن اختزاله بقانون رياضيّ ناجز.”*8*
الهوامش
1_آمنة يوسف: تقنيات السرد، ص 89 2_سيزا أحمد قاسم :بناء الرواية، ص65 3_عبدالرحمان الدسوقي :الوسائط الحديثة في سينوغرافيا المسرح .ص 17 4_عبد الرحمان بن زيدان :التجريب في النقد والدراما ،الرباط المغرب منشورات الزمن 2001 ص 104 5_نفس المصدر السابق .ص 101 6_رولان بارث: لذة النص، ص112//113 7_المصدر السابق ص113 8_خلدون الشمعة :النقد والحرية ،اتحاد كتاب العرب،دمشق ط1، 1989 ص 24






