قراءة في نص (مسافة)
الاستاذ الناقد رياض عبد الواحد:
هذا النص عبارة عن “مسافة” طافحة بالشجن الفلسفي والانكسار الوجودي في الوقت نفسه. وهو مكتوب بروحٍ تتقاطع فيها الأسطورة مع هشاشة الإنسان، إذ الذات الشاعرة لا تُقدّم نفسها بوصفها كائناً يومياً، بل باعتبارها بقايا “إلهٍ طينيٍّ ميت” تعيد تشكيل عالمها من رماد الأسئلة والفراغ.
يمتاز النص بكثافته المجازية، وتواشج عوالمه الدينية والطفولية والسحرية في نسيج واحد: داود النبي، العجوز الساحر، أطفال يركلون القلب بدل الكرة، كلها صور تُؤسس لمسافة بين “الأنا” و”العالم”… مسافة تتجسد شعرياً لا بوصفها بعداً فيزيائياً، بل كجرح مفتوح في اللغة والذاكرة.
العبارات مثل:
“أعيش ارتباكاً في مزول الوقت”
“مثل كلمة حذفها شاعر”
تكشف وعياً عالياً بالبُنية الزمنية والهُويّة اللغوية، وتجعل من “المسافة” حالة تأملية لا تنفصل عن قلق الذات وشظاياها المتناثرة.
إنه نص يليق أن يُقرأ ببطء، ليُفكّك لا ليُشرح، ويُرتّل لا ليُحاكم.
النص:
أنا أيتها الحبيبة أبعدُ من المكان، أقرب من التفكير، هناك فراغٌ بيني وبين الأشياء، وسؤال بيني وبين الناس، أعيش ارتباكاً في مزول الوقت، أنا يا حبيبتي من سلالة الآلهة، ألا أن ثلثي الطيني ميت بالكامل، وما تبقى الآن أمامكِ هو من خرافة الأساطير،
أنا مجموعة أخطاء، منذ فطمت من حليب أمي؛ صار خطأ في فمي، ومنذ خسرتُ أول عناق؛ خرج نبضي عن السيطرة، أعيش بين ظلال السطور مثل كلمة حذفها شاعر، أحمل في كتبي ذاكرتي البائدة، واحفظ اللعنات كلها في قاموس جلدي،
في هذه المسافة الصغيرة بيننا، المسافة بين كلمتين يكملان المعنى، أسمع داود يغني للرب؛ من أجل أن تعود خراف أفكاري سالمة، وأرى أطفالاً يخطئون بين تثبيت الكرة وركل القلب، وعجوزاً يمارس السحر ألا أن عصاه تبتلع شرايين ايامه.
كل يوم في أزقة البصرة، أفكُّ عقدة راية حمراء أو خضراء، فألمحُ في السماء نيزكاً، وتصير المسافةُ بيننا أقصر، وترفرف الابتسامة عالياً في أقمار وجنتيكِ.
كرّارالسّعد