قراءة الاديب محمد كامل العبيدي
في قصيدتي(في عين الغروب)
له مني جزيل الشكر ومضاميم العرفان
__________________
نص القراءة
ينبني شاعرتنا نصك “بعين الغروب” على شبكة كثيفة من الصور الشعرية التي تنتمي إلى عوالم متداخلة تجمع بين الفلك والطبيعة والجسد والزمن الوجداني، مما يمنحه طابعًا تأمليًا شفيفًا. منذ السطور الأولى، تستحضر الشاعرة مشهدًا كونيًّا حالمًا حين تقول “حين تغفو الشهب على كتف الغيمات”، إذ تُجسَّد الشهب وكأنها كائنات حية تنام، مسندةً إلى “كتف”، في استعارة حنونة تربط بين الكوني والمألوف، بين المتعالي والحميمي. هذا التخييل البصري والحركي يتعزز لاحقًا بصورة دقيقة ومقلقة في آن، حين تصف الحبيب بأنه “يمشي على حافة الحلم كما يمشي الضوء على حدّ السيف”، صورة تجمع النعومة والحدّة، النور والخطر، بما يعكس هشاشة العلاقة وارتباكها بين الحضور والغياب.
تُشيّد الشاعرة علاقتها بالآخر عبر ثنائيات متقابلة تمثل روح النص: “لا موعد بيننا ولا مصادفة ترتبها الأيام”، “لا رسائل ولا أكواب”، فتُكرّس بالأسلوب النفييّ فكرة اللاّلقاء، أو فشل اكتمال العلاقة، حيث الحبّ قائم، لكنه مؤجل ومختبئ في مناطق لا يصلها الضوء. في المقابل، يظهر “نتذوّق نفس الطعم” و”يتعثر القلب في تضاريس جسد لا نعرفها”، وهما صورتان توحيان بأن ثمة تواطؤًا شعوريًا، تجربةً مشتركةً، لكنها تمر عبر الغياب واللاشكل، لا عبر اللقاء الجسدي المباشر. هذه الثنائيات، من حيث البناء اللغوي، تشكّل نوعًا من التكرار البنائي والتوازي النحوي الذي يعزز إيقاع النص الداخلي، ويُضفي عليه موسيقى ناعمة تأملية تتماشى مع مزاج الغروب وانطفاء الرغبات.
الموسيقى الداخلية للنص لا تعتمد على الوزن الخليلي، لكنها تنبع من حسن توزيع الجمل، ومن الترنيم الصوتي الذي تحقّقه الحروف المهموسة كـ”س”، “ش”، “ف”، و”ن”، مما يجعل نَفَس القراءة منسجمًا مع روح القصيدة، لا سيما في الأسطر التي تتباطأ عمدًا لتتماهى مع إيقاع الحلم. كذلك، تحمل القصيدة كثافة انزياحية لغوية تُبعدها عن المباشرة، وتجعل من الحب موضوعًا فلسفيًا أكثر منه تجربة عاطفية ناجزة. تقول الشاعرة: “أكتبك ولا تعلم، تتنفسني ولا أراك”، وبهذا تُقدّم نموذجًا لحبّ لا يتحقق في الواقع، بل يتكثف في اللغة، في التنفّس والكتابة، في الإحساس والغياب، مما يمنح النص بُعدًا وجوديًا قلقًا.
تبلغ المفارقة ذروتها حين تقول: “وهذا الحُبّ الذي لا نعيشهُ يُبقينا أحياء”، وهي جملة تختزل البنية الشعورية الكامنة في النص بأكمله، حيث الغياب هو ما يمنح الحضور معناه، واللاعيش هو ما يجعل هذا الحبّ قائمًا في جوهره. إنها مفارقة بلاغية كثيفة، تُعيد تعريف الحبّ ليس بوصفه اكتمالًا بل بوصفه نقصًا خلاّقًا، لا يحتاج إلى التحقق لأنه مكتفٍ بتأجيله المستمر. بهذا المعنى، تصبح البلاغة في هذه القصيدة ليست تزيينية، بل بنية أساسية للتفكير في الحب كشرط وجودي لا يُدرك إلا عبر اللغة والصورة، لا عبر الجسد أو الفعل المباشر…
———————————
نص القصيدة
__بـعيـن الـغـروب__
في زاويةِ الظلّ
حينَ تغفو الـشهب
على كتف الغيمات
أراك
تمشي على حافّـة الحلم
كما يمشي الضوء
على حدّ السيف
لا موعد بيننا
ولا مصادفة ترتّبها الأيام
نحن صور متقاطعة
في صمت الأغاني
أنتَ تزرع الصبابة
في فجرك
وأنا أسقيها
من دمعِ ليلي ساعة السّحَر
لا رسائلَ بيننا
ولا أكواب نتساقاها معا
وحينَ نسكر ونسدّ المنافذ
في وجه المحرّم
يتعثّر القلب في تضاريس
جسد لا نعرفها
ونتذوْق نفس الطعم
بيني وبينك
سِـرّ نظرة
لم تُكمل طريقـها
وجلْسة خاطفة
تُخبّئـها الذاكرة في علم الغيب
وراء ستار مخملي
أحـبّـكَ
كما يحبُّ البحرُ
قمرا لا يلمسه
وأنت ملاك في سماك
تعانق وجه الماء
وأنا بشر لا أملكُ الماء
أكـتـبُـك
وتخليد العابر مستحيل
والشعر يفعل ذلك
وأكتبك ولا تَعلم
تـتـنـفّـسـني و لا أراك
وهذا الحُبُّ الذي لا نعيشهُ
يُـبقينا أحياء
الشاعرة فائزه بنمسعود
________________
قراءة الاديب :محمد كامل العبيدي