_@تـمـزّق الـركبة أم تـمزّق الـقيم؟
ليست الموضة مجرّد ذوق عابر بل مرآة لتحولات أعمق في القيم والمجتمع…
من هذا المنطلق تُطرح هذه الورقة لرصد ظاهرة السراويل المثقوبة-لا من باب الانشغال بالمظهر-بل لفهم ما تعكسه من دلالات نفسية واجتماعية وثقافية-في زمن تتغير فيه الثوابت بصمت..
وعن سراويل الشباب المثقوبة… ومنظومة الأخلاق المثقوبة أتحدّث هنا
—في مشهد بات مألوفا تمرّ بك شلّة من الشباب ذكورا وإناثا، في أزياء تُظهر أكثر مما تُخفي…سراويل مثقوبة-تحديدا عند الركبتين-تُشهر تمردها في وجه معايير اللباس التقليدية… قد تبدو هذه التفاصيل في ظاهرها موضة غير أن خلف الركبة الممزقة قد تتوارى رموز ودلالات أعمق-تكشف تحوّلات في الذوق العام وفي أنسجة القيم، وفي شكل العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الذات والعالم…
نعود لجذور الظاهرة من الفقر إلى الترف
ليست السراويل المثقوبة اختراعا حديثا— تاريخيا كان تمزّق الثياب دلالة على الفقر والتهميش — ننطلق من مصنع تصدير الانحلال ( أمريكا )بالتحديد في السبعينات والثمانينات ظهرت موضة الملابس الممزقة في أوساط موسيقى (البانك Punk )كعلامة تمرّد على الرأسمالية والاستهلاك-وكصرخة احتجاج ضد النظام…لـذا كان تمزّق السروال حينها تعبيرا عن الهوية والهامش-لا عن الموضة والترف…
لكن الرأسمالية التي تمتص كل ملفت للنظر هذه الرأسمالية ذاتها التي كانت تُحارَب استوعبت الظاهرة وأفرغتها من محتواها الاحتجاجي—لتُعيد إنتاجها في شكل استهلاكي ناعم( سراويل *رِبْد* Ripped Jeans)وباتت تُباع بأسعار باهظة وخيالية احيانا في واجهات أشهر العلامات…وهكذا تحوّل التمزق من رمز للفقر إلى سلعة نخبوية
والرأسمالية جاهزة لتعليب كل شيء وتحويل مصائب الإنسانية إلى مال متدفق
فكيف انتشرت الظاهرة
من الغرب إلى العالم… بزيف عالمي موحّد؟
ما إن تبنّى نجوم الموسيقى والغناء والسينما هذا الزي حتى انطلقت موجات التقليد من الغرب إلى الشرق…فصار الشاب التونسي أو الجزائري أو المغربي أو العربي عمومالا يرتدي البنطال المثقوب لأنه يرفض النظام-بل لأنه على الموضة
في زمن الهيمنة الثقافية الغربية/ صارت الموضة أداة استعمار ناعمة-تُعيد تشكيل الأذواق والسلوكيات والهويات. ..لا عجب أن نرى هذه السراويل تكتسح مدننا وقرانا من دون أن نتساءل==هل نرتدي ما نشاء أم نُجبر على ارتداء ما يُملى علينا باسم #الحرية الفردية#؟
فما الذي تعكسه هذه الظاهرة نفسيا واجتماعيا؟
-1–نفسيا: قد تعكس هذه الموضة حاجات دفينة للتعبير-للتمرد-اوللخروج عن النسق العادي الروتيني فالشباب يواجه في المجتمعات العربية ضغطا نفسيا هائلا( بطالة/ اغتراب/تهميش سياسي واقتصادي)وفي غياب فضاءات التعبير يصبح الجسد هو الساحة الأخيرة للتعبير- عبر الملابس-عبر الوشم- عبر الثقب… فالركبة الممزقة تصرخ نيابة عن فم لا يُسمع حتى وان صرخ عاليا
—2–اجتماعيا: الظاهرة تضع سطرا تحت اختلال في مفهوم *الذوق العام*__ هناك صراع خفي بين جيل يرى في الموضة حرية وجيل يعتبرها انحلالا وهكذا تتسّع الفجوة بين منظومات قيم-لم تعد تُنتج بشكل جماعي-بل يُفرض أغلبها من الخارج-أو يُلتقط من وسائل التواصل ومن منصات الاستهلاك اللامدروس
—3–أخلاقيًا: والسؤال هل الأخلاق ترتبط بالمظهر؟
ليس بالضرورة-لكن عندما تُصبح رموز الابتذال معيارا للجاذبية يصبح من الضروري أن نسأل—إلى أين نحن ماضون؟
وهناك سؤال يطرح نفسه
هل هناك خلفية سياسية؟ أي تعمد نشر سياسة الإلهاء والانشغال بالقشور..
وقد يُطرح السؤال المشروع: أليست هذه الظاهرة – مثل كثير غيرها – جزءا من استراتيجية عالمية لصرف الشباب عن التفكير في القضايا الجوهرية؟
في زمن تتفاقم فيه الأزمات السياسية-وتُغلق فيه أبواب النقاش والاحتجاج-يُعاد توجيه طاقة الشباب إلى التفاهات (كالملابس/ المظاهر/الموضة/التفاهة الرقمية)يصبح النقاش حول (فتحة الركبة)أهم من النقاش حول (فتحة في السيادة الوطنية)وتُستبدل المعركة ضد الفساد بمعركة الدفاع عن (الحرية في اختيار اللباس)
هكذا تتحول الموضة إلى سياسة إلهاء-أو (أفيون جديد)للشباب يُشغَلون به عن فهم واقعهم أو تغييره…
بين حرية التعبير وتخريب المنظومة الأخلاقية
هل توجد نية مبيتة لتفكيك القيم الأخلاقية من خلال هذه الموضات؟ السؤال مشروع وإن بدا مثيرا للجدل… من الواضح أن بعض هذه التوجهات تندرج ضمن نزعة تفكيكية للمعايير التقليدية-وتحمل أحيانا شحنة رمزية تستهدف الأسرة والمدرسةوالدين وكل القيم والثوابت وحتى مفهوم الحشمة ذاته…
لكن في المقابل-لا بد من الاعتراف أن الدفاع الأعمى عن القيم (القديمة خاصة الموروثة منها والمتداولة بالعادة والتي احيانا تمثل جمودا وانحرافا عن القيم الإنسانية)من دون تطويرها قد يُسهم هو الآخر في هذا التآكل لأن القيم إن لم تتجدد تتحجر وتنهار من داخلها…
لذا لا بد من السعي نحو تماسك مجتمعي قائم على الوعي لا الردع
ليست الحلول في المنع أو السخرية أو الردع البوليسي…بل في فتح نقاش وطني وجامعي وثقافي حول معنى (الهوية-ومفهوم الحرية-ودور اللباس في التعبير الذاتي-)وكيف يمكن أن نُصالح بين الحداثة والأصالة وبين التعبير الفردي والتماسك الجماعي…
يجب أن تُستعاد وظيفة المدرسة والمسرح والكتاب والمنتديات الثقافية في تربية الذوق وفي تكوين الحس الجمالي وفي تعزيز المعنى—حتى لا تتحول الركبة إلى مركز الثقل في النقاش الحضاري..
أختم
حين تصبح الركبة مرآة المجتمع
***تمزّق الركبة ليس مجرد فتحة في سروال بل علامة على شق في منظومة القيم وعلى صراع غير محسوم بين الأصيل والمستورَد***
وهي دعوة لننظر إلى أبعد من القماش-وأعمق من الركبة- لنسأل: ما الذي تمزق فعلا؟ هل هو الجينز… أم نحن كمجتمعات غير محصنة ضد التيارات الجارفة؟
————
المراجع
محمد عابد الجابري. الهوية والثقافة: عولمة العولمة. مركز دراسات الوحدة العربية، 2006.
عبد الوهاب المسيري. العالم من منظور غربي. دار الشروق.
→ نقد شامل للعقل الاستهلاكي الحديث
Erikson, Erik. Identity: Youth and Crisis. Norton, 1968.
→ تفسير تطور الهوية عند الشباب والارتباك في سنّ المراهقة مما يفسر اختيارهم لأساليب تعبير جريئة أو صادمة أحيانا
———————-
فائزه بنمسعود
1/6/2025
@à la une