دراسة لرواية : ابنة الديكتاتور
الأديب: مصطفى عبيد/ مصر
بقلم: سمية الإسماعيل / سورية
“بين الانزياح والتضفير.. سردية النسق السلطوي في رواية ابنة الديكتاتور لمصطفى عبيد”
مقدمة
رواية “ابنة الديكتاتور” (2018) للكاتب المصري -مصطفى عبيد- تُعدّ عملاً أدبياً مركباً يجمع بين التاريخ /المتخيل و السيرة الذاتية الوثائقية، حيث تتعقب مسارين زمنيين متوازيين: حياة “سناء بكاش”، العميلة السرية في حقبة الخمسينيات والستينيات، وحفيدتها “فيروز الصاوي”، الطبيبة المعاصرة التي تكتشف مذكرات جدتها المطموسة. الرواية، التي تُوصف بأنها “مستوحاة من أحداث حقيقية طُمست عن عمد”، تطرح أسئلة جوهرية عن *السلطة، الأخلاق، والهوية* في ظل الأنظمة الشمولية، مستخدمةً أدوات السرد الروائي لتفكيك الخطاب الرسمي للتاريخ.
تمهيد:
تُجسد رواية ابنة الديكتاتور تمثيلًا سرديًّا لجدلية السلطة والذات، عبر تقنيات استعارية تمتد من الشخصيات إلى البنية الزمنية، مع تضفير دقيق بين السيرة الذاتية والمتخيل التاريخي. يحكمها منهج سردي متعدد المستويات، يراهن على تفكيك مركزية الحقيقة وطرح سؤال الحريّة في بنية سلطوية خانقة.
الموضوعة: من تمثيل الذات إلى خيانة الجسد
تتأسس الموضوعة المركزية على ثنائية “المرأة-السلطة”، حيث يتم استثمار الجسد الأنثوي لا ككيان ذاتي، بل كأداة تخترق بها السلطة المجال الرمزي والثقافي. تمثل شخصية “سناء بكاش” التجلي الأوضح لهذا الاستخدام، فهي ابنة سلطة غير مرئية، ولكنها في ذات الوقت ضحية لها، مما يحيلنا إلى مفهوم “الانفصام الأيديولوجي”، حيث تُجبر الذات على التماهي مع جهاز قمعي تعارضه داخليًا. تقول الرواية:
“لم أعرف إن كنت أعيش حياة اخترتها، أم اختيرت لي باسم الوطن.”
❞ لم أختر أبويّ، لم أختر فقري، بؤسي، وجهلي، لم أختر امرأة التقطتني للتسلية، ولم أختر ليالي بت فيها باكية، وحيدة، مغتربة. أنا حتى لم أختر شغلي، فرضته الظروف فرضا، ودفعتني إليه في البدء حاجتي لمأوى وعيش، ومع الوقت أحببت هذا العمل أكثر من حبي للحب. أدمنته، وسكنني لأشعر معه بالحياة، أتنفس على هذه الأرض لأعرف، أعيش لأفتش، أتحرك لأراقب، وأفعل كل شيء لخدمة قيمة عظيمة هي الوطن❝
هذا يكشف عن تمفصل داخلي بين حرية مزعومة وقدرية مفروضة، ما يجعل الرواية تشتغل على موضوعة مصادرة القرار الفردي، لا من خلال القمع المباشر فحسب، بل عبر احتواء الذات وتوجيهها.
المنهج السردي: التناوب والتوازي/تعدد الأصوات (Polyphony)
يُهيمن على الرواية منهج سردي تناوبي بين صوت الطبيبة “فيروز الصاوي” وصوت “سناء بكاش”، مع تداخُل زمني يُوظف تقنية الاسترجاع (flashback) والتذكّر المرتبك، بما يحاكي تفتت الذاكرة وتشوّشها. فالمذكرات في الرواية ليست مجرّد وثيقة بل هي بنية موازية، إذ يُضفر السرد المعاصر بالسرد الماضي، بما يخلق طبقة مزدوجة من المعنى، ويربط بين قمع الأنثى في الحاضر والماضي.
“كأن كل النساء متشابهات في المصير، فقط تختلف التفاصيل.”
ثم تأتي رسالة الجد ليصبح هناك ثلاث رؤى سردية؛ صوت فيروز، مذكرات سناء، ورسالة الجد. كل صوت يحمل نسقًا مختلفًا في الرؤية. ليتحول السرد إلى جهاز تفكيك تاريخي-نفسي يعيد مساءلة التاريخ الرسمي من خلال سرد مضاد.
التقنية اللغوية: التلميح بدل التصريح، والشعر كقناع رمزي
تلجأ الرواية إلى اقتصاد لغوي دقيق، يحكمه التلميح والانزياح بدل المباشرة، مع توظيف كثيف للتراكيب المجازية. اللغة مشدودة بين بلاغة السرد التوثيقي حينًا، وإيقاعية شعرية حينًا آخر إلى المحكيّة في الحوار لخلق واقعية متعددة الطبقات.
كما يُعد استدعاء أبيات المتنبي تقنية رمزية تخلق توازيًا أسلوبيًا بين ما يُقال في زمن السرد وما يُستدعى من سياق ثقافي عربي قديم. فالمتنبي هنا ليس استعارة تراثية، بل قناع تعبيري يموّه به السارد انفعاله ويكثف دلالته.
التضفير بين الواقع والتخييل: كسر الجدار، لا الرواية
يُقحم الكاتب ذاته داخل الرواية بصفته كاتبًا حقيقيًّا عثر على المذكرات وحقق فيها، وهو ما يُحدث تضفيرًا بين التوثيق والتخييلي، دون أن ينزلق إلى وثائقية مباشرة. هذه التقنية تُعيدنا إلى مفهوم كسر الجدار الرابع، حيث يتخلى النص عن حياده المفترض، ويتورّط فيه الكاتب، لا بوصفه إلهًا سرديًّا، بل كشاهد يحاول ألا يكذب أكثر. إن إدخال الكاتب شخصيته الحقيقية داخل النص هو نوع من هذا الكسر، فهو بذلك يُزيل الحاجز بين السارد والمؤلف الحقيقي و يُدخل القارئ في منطقة ملتبسة بين الواقع والتخييل. ويُذكره بأنه يقرأ رواية، لكنها قد تحتوي على ما هو واقعي أو موثق.
الانزياح: بين السيرة والتاريخ
تكمن خصوصية الرواية في انزياحها الجمالي عن كلاسيكيات رواية السيرة، فهي لا تقدم السيرة بوصفها اعترافًا، بل كـ تفكيك سردي لسلطة الاعتراف. ومن هنا يأتي الانزياح في شكلين:
-انزياح بنيوي: في تراكب الصوتين (فيروز وسناء)، لا نعرف أبدًا من يملك الحقيقة.
-انزياح دلالي: في استخدام المذكرات كسرد داخلي/خارجي، تظهر الذات وكأنها تنظر إلى نفسها من الخارج.
سناء بكاش: انقسام الذات تحت سقف السلطة
لم تكن سناء مجرد شخصية عادية في رواية عابرة، بل تجسيد سردي للمرأة في مأزقها الوجودي بين الانتماء والإلغاء. هي ابنة “الديكتاتور”، لا بالمعنى البيولوجي، بل بمعنى الوراثة الرمزية للسلطة والعار.
تمثل شخصية سناء:
*موضوعة الجسد المؤمّم: جسدها مُسيّج بأوامر السياسة، يتحول إلى أداة اختراق في تنظيم سري ثقافي.
*منهج سردي معكوس: إذ نكتشفها من النهاية، من شيخوختها وموتها النفسي، ثم نعود إلى طفولتها وتكوينها السلطوي.
*تضفير الهويات: امرأة / جاسوسة / أديبة / أم / متهمة. لا هوية تغلب، بل جميعها تتآكل.
*انزياح الوعي: فهي تُدرك قبح ما فعلت، لكنها تبرّره بنبرة انهزامية: “كنت أظنني أخدم وطني.”
إنها ذاتٌ منشطرة بين التبرير والندم، بين سرد “الواجب الوطني” وواقع “الخيانة الرمزية”. تتجلى في مذكراتها كمرآة معطوبة للزمن السياسي، تُبصر ذاتها أخيرًا كأداة، لا كصانعة قرار.
خاتمة القول
تُعد ابنة الديكتاتور رواية ذات تركيب سردي معقد يخدم أطروحة فكرية واضحة؛ لا أحد ينجو من أسر السلطة، حتى لو ظن أنه يحاربها. وقد نجح مصطفى عبيد في تحويل وثيقة شخصية إلى مرايا متكسّرة للتاريخ والهوية، عبر سردٍ متوتر، لغته ذات طاقة رمزية مكثفة، تنزاح بها الرواية عن سطح الحدث إلى عمق المعنى.
اقتباسات:
❞ فمن يعمل بالطب في مصر يُدرك أن الأنباء السارة غير مسموح لها أن تُعكر صفو حكايات الوجع ومشاهد الحُزن ومواقف الخطر المهيمنة على الأجواء كل يوم. ❝
❞ بين لحظتين لا يُمسكهما المرء تنفلت الحياة، فتجف الدماء وتنسحب الرؤية ويتلاشى الوعي. سألني مُترددا إن كنت أؤمن بالآخرة، ❝
❞ “إن الحب الحقيقي يقيم جدارا من الرفض لأي حب جديد مهما كانت المغريات”. ❝
❞ بالنسبة لي المعرفة هي الجنة. المتعة الحقيقية هي إننا نعرف. عاوز أشوف اللي الناس مش شايفاه ❝
❞ إن أهم متطلبات الحياة هي المعرفة. مَن يملك المعلومات يملك كل شيء: الثروة والنفوذ والبشر. والعالم يتطور ويتغير ويتلون وينقلب الأعداء فيه إلى أصدقاء، ويتبدل الإخوة إلى خصوم، ولا يُمكن للمُخبر التقليدي أن يعي كل ذلك. لقد صار هذا المخبر آلة مكهنة تنتظر التخريد. فالأسرار الحقيقية تحتاج لمن يقتربون من الناس أكثر ويتسللون إلى مخادعهم، يطلعون على نقاط ضعفهم، ويطالعون عُريهم الإنساني. ❝
❞ محاولة يائسة لسبق ملاك القطف الذي أشعر كل يوم برائحة اقترابه من تنفيذ مهمته المحتومة. أكتب مُستبصرة لماض مرير، ماتع حينا، وقامع أحيانا كثيرة، لكنه سخي بالحكايات المُدهشة التي فرت من كُتب المؤرخين. ❝
❞ فتحت عينيه وأبصرت الموت مُطلا كزائر ليلي كريه. حاصرني شعور مخيف بالخواء وظننت كما لو أن فأسا مباغتة قصمت ظهري، ففتفتته. ❝
❞ متنسيش إحنا اللي بنفرض الحقيقة على الناس. والناس بتنسى دايما اللي فات ❝
❞ الحب ترف لا يتورط فيه المناضلون ضد الهونة. الحب ضعف أمام القاسية قلوبهم، انهزام وتذبذب وخضوع، وكسر للكرامة، وليّ لأعناق الحق.
الحب وجع يتسع كلما ارتفع منسوبه في القلب. آكره الحُب الذي يجعلني أضحي من أجل آخر. التضحية الوحيدة المقبولة في معجمي هي التي تبدل في سبيل عظائم الأمور، والوطن الآن هو القيمة الوحيدة ❝
❞ لا أظن أن لدى “سعاد حسني” أسرارا تستحق التصفية، كما بت أظن أن مبدأ التصفية نفسه غير وارد لدى المؤسسة. فأقسى تصفية يمكن للمؤسسة اللجوء إليها هي أن تبقي خدامها المتقاعدين وحيدين دون اتصال أو امتنان كأنهم لم يكونوا يوما معها، مثلما هو الحال معي.
وهكذا يقتلونك وأنت حي، ويشطبون انتصاراتك
وأمجادك تحت زعم التبرؤ من خطايا فردية تدنس من كلف بها ❝.
مع تحياتي للأديب: مصطفى عبيد