تمازج السرد التصويري بالأبعاد الرمزية
قراءة فلسفية بقلم / محمد البنا
لنص * رقصة أخيرة *
للأديبة المصرية / إيناس سيد جعيتم
/////////////////////////
رقصة أخيرة
تحبس ما تستطيع من الهواء بصدرها وتبدأ رحلتها بحضن مياه المحيط الدافئة، يتماوج جسدها في ليونة تثير الإعجاب مخترقة المياه الصافية التي تتلألأ بأشعة الشمس، فتنعكس براقة على شعرها الذهبي، تتحرك بخفة تراقص تيارات تنساب خلالها في متعة، وحرية تملأ قلبها وعقلها، فتندفع بعنفوان محلقة بين أسراب الأسماك الصغيرة، تخيفهم حركتها المباغتة، فيتناثرون في وجل مفسحين لها المجال لتكمل جولتها المدهشة، تترقبها عيون أخرى باشتهاء لجسدها البض لكنها لا تأبه بهم، لن يمنعها أحد عن الاستمتاع بحريتها، بمحض إرادتها تقرر الاكتفاء بهذا القدر فتندفع بكامل قوتها نحو السطح، تقفز قفزة هائلة لتلقي بجسدها الرخو على صخور الشاطئ، ترمق المحيط بنظرة خاطفة، تراودها نفسها للرجوع، يلفحها الهواء الساخن فينزع عنها أحلامها ويدثرها بحقيقتها، فتحث أطرافها القصيرة على دفع جسدها الهائل وسط المئات من الأجساد المتلاحمة، تناطحها الإناث الأخريات بينما تشق طريقها وسطهم بصعوبة حتى ترتطم به… الذكر المهيمن بجسده العظيم وسطوته، يرمقها بنظرات تعرفها، لا حيلة لها… لا فائدة من المقاومة… لا مهرب منه، هو المنفذ الوحيد المتاح لها لتتمكن من الحياة كالباقيات، تستكين له وهو يغرس أنيابه بجلدها، ويزرع نبتة جديدة لنسله، يكاد ثقل وزنه أن يزهق روحها، ينزع أنيابه عنها ويزحف مبتعدا، غير عابئ بدمها الحار الذي يسيل ليخضب الأرض من تحتها، تلملم بقايا كرامتها، تلعق جراحها، وتشخص بعينيها الدامعتين نحو المحيط الشاسع.
إيناس سيد جعيتم
______________
القراءة
_______
* وكما خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام؛ يظل ارتباط ذريتها (الإناث) وشيجًا بذريته( الذكور)، ويظل احتياجه إليها احتياجًا ضرورياً لا غنى عنه، لاكتمال نقصانه.
خلاصة القول؛ كلاهما لا غنى له عن الآخر، فهل أكد النص الذي بين يدينا على ذلك، أم عارضه وفند مبرراته؟
* دعونا الآن نرى كيف قدمت الكاتبة الذكية فكرتها من خلال إحداثيات سرد، مازج بين الوصف والشعور، كما مازج بين الشعرية والنثرية..
– استهلال سردي واصف لمشهدية حية نابضة بالديناميكية تنساب كموجة في طريقها إلى الشاطئ.
– مشهدية توافرت فيها الحركة الأفقية ( السباحة ) جنبًا إلى جنب مع الحركة الرأسية ( التيه بالذات والاحساس بالتميز).
– الوصول للشاطئ؛ الانتقال من أرض الأحلام المشرقة والحرية المطلقة( المحيط) إلى أرض الواقع ( الصخرية)، لتتفاجأ بمثيلاتها ممن سبقوها، فتجاهد لتجد لها مكانًا بينهن يليق بها، ويمنحها القدرة على الاستمراية. .أنه الرجل أو كما ورد في المتن ..الذكر المهيمن!..فقدان جزء من حريتها ثمنٌ لا بد لها من دفعه، وإنها الرقصة الأخيرة المؤطرة لانتقالها من العالم الحالم إلى عالم الواقع، أو من البكارة إلى الأنوثة بكل مكوناتها ومنها طبعا الأمومة.
* الخلاصة الفلسفية مفادها كما يقول النص ” لكل مكسب تناله مقابلٌ تخسره “، إذ نرى هنا أن الفقمة الأنثى الشابة الحالمة دفعت بكارتها ثمنًا لتوطد لها مكانًا بين الإناث الأخريات؛ ضريبة مستحقة، كذلك بإلتماس اسقاطٍ هو موجود بالفعل؛ نراه في عموميته ينطبق على الأنثى البشرية بانتقالها من عالم العزوبية إلى عالم الزواج، اكتمال متبادل كما سبق وأشرت عاليه.
* الخاتمة؛ ميزت كلماتها الوجع والألم والجراح والاحساس بفقد الكرامة، يقابلها على الطرف الآخر الأمومة وتأثيث بيت وأسرة، ونظرة حنين إلى عالم البكارة ( المحيط)، ولكن هيهات هيهات، ما فقد فقد ولا عودة له، وإن عاودنا الحنين إليه!!
* امتاز المتن بانسيابية مشهودة، ووصفية طبيعية حية نابضة، كونتها الشمس والماء والأسماك والجلد الناعم والجسد الرخو، في تمازج مبهر مع متناقضاته كالصخر، والأنياب، وشق الطريق، والتناطح، والارتطام والجسد العظيم وسطوته، والدماء، كل هذا كان مؤداه أن لخص لنا مشهدية حية معبرة عن عالمنا الذي نعيشه منذ آدم وحواء وإلى قيام الساعة.
* رافعات النص
– اللغة الشاعرية السلسة البليغة بلا مبالغة
– الانسياب أو التدفق السردي
– عدم المباشرة فلا سطحية للطرح ولا تلغيز أيضا.
– طرح أسئلة وجودية ضمنية بلا تصريح.
– العنوان الرائع المعبر بطلاقة ومهارة عن لحظة الانتقال من المحيط( الحالم/ العزوبية/ الحرية ) إلى الصخرة ( الواقع المعاش/ التزاوج/ القيد ) .
– السرد التصويري؛ اعتماد الكاتب لتضافر الشخصية مع العالم المحيط، والاحساس بالذات.
**********************
محمد البنا / القاهرة في ٤ يونيو ٢٠٢٥