الثقة والأمانة ،في زمن المكر والخيانة.
بقلم :ماهر اللطيف.
كان يا مكان في قديم الزمان والمكان، شاب شديد القوة والبنيان، جميل المنظر والكيان، بار بوالديه وكاره للشر والعصيان، حالم بنيل المغفرة والجنان وهجر الشر والشيطان، يعمل لآخرته في كل آن عبر حاضره الملآن بالمتناقضات وتحول الإنسان من حالة إلى حالة دون سابق علم أو بيان….
وكان هذا الشاب قد قفل من العمر ثلاثين سنة ولم يحج أو يعتمر، بما أنه الوحيد من جنس الذكر في هذه العائلة التي تكابد المجاعة والفقر ،والحاجة وعسر الحياة وصعوبة المستقر ،وتتالي تغيير المقر ،وكذلك العمل الوعر الذي يعيل به عائلته كل شهر….
و صادف أن عمل في الفلاحة مع فلاح، وتعلم منه – إلى جانب العمل وآلياته – العادات الملاح كالصبر والكد والجد والفلاح، والمثابرة والتوكل على الله والارتياح عند السعي إلى مرضاته دون ضجيج أو صياح نتيجة لـِمرضاة عباده ومنهم القباح….، وغيرها من العادات التي تنتج التفوق والنجاح والتميز والصلاح…
و شيئا فشيئا، تحسنت أموره المادية، توطدت علاقته بالله ودينه الحنيف وسائر الشعائر الدينية،وكذلك حياته العائلية، فتزوجت أخواته الثلاث بسرعة قياسية، ورفض هو انتهاج هذا المسلك قبل تقديمه لوالديه أحسن هدية وهو الحج مادام في العمر إمكانية.
لذلك، حزم الأدباش في الحال، وضعها على ظهور الإبل و الجمال، تفقد المؤونة والحاجيات وكذلك المال، والخيام والماء والقوس والنبال…، ولم يهدأ له بال حتى انطلقت قافلته تشق السهول والفيافي والجبال، والأمصار والبلدان والدول والمسافات الطوال….
لكن، شاءت الصدف أيها الكرام، أن يعتدي عليهم قطاع الطرق وهواة الحرام، مهرة السرقة و الإجرام، وكانوا يستعدون للإحرام بدنو أرض الحج بعد بضعة أيام في ليلة شديدة السواد والظلام، فحرموهم من كل شيء حتى الخيام، والشرب والطعام، والكوابيس والأحلام …، وعجزوا عن التعبير والكلام وتوجهوا إلى الذي لا ينام وطلبوا عونه وإيصالهم إلى بر السلام….
لذلك، ودون الرجوع إلى أسباب هذه الجريمة التي وضعته في حرج مع والديه وما وجهاه له من لوم وعتاب لعدم حراستهما حراسة جيدة في مثل ذاك الوقت المستراب، اتجه الشاب نحو المدينة وطرق الأبواب طلبا للعون وتذليل الصعاب، و متقبلا للشتم والسباب وبقية الألم والعذاب….
لكن، هيهات، ثم هيهات، فقد أعطته الحياة بظهرها ووعدته بمزيد الويلات والآهات، وتنكر له الناس في كل الأماكن والردهات، الشيء الذي جعله يبحث عن عمل منه يقتات هو ووالديه اللذان اقتنعا حينها أن الوضع حرج ولا ينبئ بخير من الخيرات، فاجتهد متسلحا بذكريات الفقر والحاجة وضيم الناس والحياة، وسقوطه وقيامه مرارا أمام الصعاب والتحديات وغيرها من الإيجابيات والسلبيات، إلى أن مهد له الله طريق النجاة ووضع في حياته ذلك الفلاح الذي هداه إلى مستقيم الصراط….
وفعلا، تعرف الشاب على تاجر ثري أمين، اشتغل عنده في متجر من متاجره المنتشرة على اليسار واليمين، وحقق له الربح المبين وزاد في ثروته وشهرته عند العالمين في مدة قصيرة لا سنين، أخبره بقصته وطلب منه العون والتمكين من المال والعتاد والطحين وغيرها من الحاجيات لمواصلة المشوار صوب مكة والمدينة مثل بقية الحجاج الميامين، لكن الثري طلب منه رهنا يضمن به مقابل هذا الدين….
فرجع إلى والديه مكسور الخاطر بعد هذا التعب، وأخبرهما بما حصل من كلام وصخب، فمكنته والدته من قطعة ثمينة من الذهب – اقتنتها من مالها الخاص قبل السرقة والنهب من فواضل مصروف الدار زمن عمله في الفلاحة وثني الركب – أخفتها في مكان سري في جسدها احتسابا لأي طارئ وسبب كما قالت وهي تتحاشى غضب الأبُ….
فأعطى للتاجر الرهن المطلوب، وأخبره أنه باهظ الثمن وخال من الأخطاء والعيوب، وقيمته تتجاوز المبلغ المرغوب – مائة دينار نقدا حينها تفي بالمطلوب – فيه لتجاوز هذا الوضع المنكوب، وقال له بكل ثقة في النفس وقت الغروب:
– إن لم أرجع لك بعد الحج ومعي دينك المسكوب، فبع الرهن واسترجع مالك المنهوب
– (مبتسما) لا عليك أيها الشاب الموهوب، وعذرا على هذا التصرف المعطوب، لكنك غريب عنا ولا ضمان لي و لمالي الذي أقرضته لك دون مكتوب
– (مقاطعا) لا تبرر أيها المحبوب، فهذا شقاؤك وتعبك الذي تشهد عليه الدروب والسنوات وما حملته من علل وكروب….
وتشاء الأقدار أن يموت الوالد في مكة زمن أول طواف ومسار، ثم الوالدة خلال السعي بين الصفا والمروة في آخر نهار، ويفقد آخر مليم ودينار ما إن ينهي الحج مع بقية الأبرار، مما جعله مجددا يبحث عن عمل للعيش والاستمرار، وتحقيق الحاجيات وتسديد الديون وتوفير ما يستحقه من أكل وشرب ودار، وتاه بين الناس وكل محل وعقار، ومزرعة وأرض دار من الديار، فتلاعبت به الأقدار وخالف وعده للتاجر الذي مل الانتظار واستخلص ماله من الرهن المستعار.
وبعد مضي سنوات وسنوات، قرر “باهر” العودة إلى وطنه ورؤية الأخوات وإخبارهن بما فعلت به الأقدار والسنوات، فحزم حقائبه وكل ما ملكه من حاجات، ركب حماره وودع الناس دون قبلات، وشرع في عبور الأراضي والبلدات، وهو يتذكر في كل خطوة من الخطوات حدث أو قول أو كلمات سمعها في هذا المكان وذاك من مرافقيه أو من بقية المخلوقات، يبكي تارة ويضحك طورا وهو يتحدى الصعوبات…..
وبعد أيام قليلة من المسير، وجد نفسه أمام ضيعة شاسعة ذات خير يسير، – وقد انتابه تعب عسير – فقرر أخذ قسط من الراحة والتزود بما ينقصه من قمح وشعير، وماء وطعام وغطاء يحميه من هذا البرد القمطرير،فاستأذن من صاحب الضيعة الذي فرح بالضيف الكبير، واستدعاه للغداء والنوم على سرير من الحرير، وأهداه الهدايا ومكنه من أي طلب مهما كان جد عسير….
وفي الأثناء، قص باهر على صاحب الضيعة قصته بالتفصيل الممل، وكان هذا الأخير يتابعه باهتمام دون أن يكل، قبل أن يحضنه ويقبله من جبينه وأجزاء من جسده الذي اعتل ويعلمه أنه التاجر الذي أقرضه المال حين سُئِل، انتظر رجوعه شهورا وهو يأمل أن يرجع له رهنه مثلما اتفقا في ذاك المحل، لكنه باعه في الأخير خوفا من أن يفل ثمن هذه القطعة الذهبية ويخسر مقابل ماله الذي سدل عليه ستار الوجود إلى حين إحيائه من جديد بعد تجديد قيمته ووضعه مع بقية المال في مخبئه في الجبل…
كما أخبره أنه باع الرهن بضعف ثمن القرض، فأخذ ماله وبقي ينتظره ليعطيه البقية بعد سرده عليه هذا العرض، ولما طال الانتظار استثمر المال وزرع الأرض بالخيرات وحماها من كل علة ومرض، فبارك الله فيها ونوّع زراعاتها ومنتوجاتها وزاد من خضرتها وتنوع فيها العرض إلى أن باتت “جنة على وجه الأرض “…
وقد اتصل بالتاجر – حينها صدفة – قطاع الطرق بعد سفر باهر ووالديه، وعرضوا عليه بضاعة مسروقة وضعوها بين يديه واقترحوا عليه شراءها بالنقود التي لديه بعد أن علم سرها وتأكد أنها تعود إلى باهر ووالديه، وبقي ينتظر عودتهم ليهديههم ترحما على والديه…
ولما طال الانتظار، باع هذه الأمتعة واقتنى بثمنها الإبل والجمال وبقية الحيوانات المتواجدة خلف هذا الجدار، وضاعف من عمل و مردودية هذا المشروع المدرار، وطور من عمله وزاد في تنويع الغلال والخضار، وشيد هذه الدار في انتظار صاحبها الذي سيحل بها مهما تأخر وصار – كما كان يعتقد التاجر كل ليل ونهار -، وها إن الموعد قد حل بعد هذه السنوات وهذا المسار، ورجع العَقَار إلى صاحبه والحمد لله صانع هذه الأقدار….
لكن باهر رفض هذا العرض ولم يصدق هذه السردية، بل إنه أصر على دفع معلوم كل طعام وهدية تحصل عليها طيلة إقامته في هذه الجنة الوجودية – لأن ما أتاه التاجر لا يصدقه عقل عاقل يعيش وَسَط هذه المدنية التي تتخذ من الأذية والتحايل وقلة المعروف وغيرها شعارا للاستمرار على هذه الأرض الأبية -….
وبعد نقاش طويل وإقناع، وتحليل وتذكير بالتفاصيل ومكونات المتاع – مسروقاتهم التي أتى بها قطاع الطرق للابتياع -، اقترح باهر على التاجر أن يكون شريكه في هذه الجنة وما فيها من إبداع، بما أنه صاحب الأرض والإمتاع، والاجتهاد والإقلاع، وطلب منه أن يواصل رعايته لهذا المشروع الذي ذاع صيته بين الناس في انتظار عودته واصطحاب أخواته وعائلاتهن وانصياع بعولتهن لاتباعهن والعيش هنا بين هذه الفيافي والقلاع….