مطالعات :
“ريح لا تحفظ اتجاهها ”
مجموعة شعرية للشاعرة التونسية فائزة بنمسعود.
” فائزة بنمسعود شاعرة تسمي الأشياء بأسمائها وتنسف قاموس الطابوهات فقط بالكلمات …”
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
لأول مرة أستأنس بالذكاء الإصطناعي وأطرح عليه سؤالا كان أرقني وأنا أتصفح مجموعة شعرية للشاعرة التونسية فائزة بنمسعود تحت عنوان “ريح لا تحفظ اتجاهها ” .وهو كتاب صادرعن دار الأدب الوجيز في أكثر من 120 صفحة من الحجم المتوسط في بداية سنة 2025 . و يحتوي على 35 نصا شعريا بين طويل و قصير وقد كتبت صاحبته في الإهداء ما يشد الإنتباه ويضيف حيرة على حيرة :
إلى جلجامش الملك الميت داخل سرير النهر .
إلى ابن خلدون الذي مرقده في المكان الذي انشق فيه .
إليّ أنا التي انشق لي الكلام مجازا .
علما وأن الشاعرة صدرت مجموعتها بسؤال محير حيرة كل القصائد والشعراء :
“أيكون في وسعي ألا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه ؟ ”
ولعل في كل ما سبق ذكره , اشارة منها بأنها تبحث عن الإستمرار والخلود رغم الظروف الصعبة التي مرت بها ,وتكره الموت والفناء .
ولكن قبل الغوص في تفاصيل كل هذه النصوص والأشعار, أعود إلى إجابة الذكاء الإصطناعي عن سؤال : هل تحفظ الريح اتجاهها ؟ وقد جاءني الرد كما يلي :
” لا، الريح لا تحفظ اتجاهها. اتجاه الريح متقلب ومتغير باستمرار. هناك اتجاه سائد تهب فيه الرياح في مكان ما، لكنه يتغير حسب المنطقة والموسم والمناطق الجغرافية، وهناك عوامل أخرى تؤثر في اتجاه الريح مثل درجة الحرارة والضغط الجوي..” .
فهلْ صدق الذكاء الإصطناعي في ردّه ؟ وهلْ هذا ما قصدته بالفعل الشاعرة فائزة بنمسعود في أغلب هذه النصوص ؟
وكما الريح لا تحفظ اتجاهها كما ورد في العنوان ,فإن الشاعرة أطلقت عنان قلمها في كل الإتجاهات , وصوبت كلماتها الغاضبة على كل الأهداف . وصرخت بصوت عال : أنا لا أصلح للحب ..أحب أشعاري و أسفاري..أحب حرية اختياري ,وأتحمل تبعاتي قراري. وبهكذا كلمات أعلنت تمردها . لم تضع حدودا لهذا التمرد, وخاصة في علاقتها بهذا الرجل الذي ظل بكبريائه وحيدا خلف أسوار الحقيقة , في زمن اكتسبت فيه الجرأة لتعبر الماء بدون بلل ولتتسلح بلسان أفعى ,حتى تسقيه السم في العسل وتتخلص منه إلى الأبد . والثابت أن كتاباتها كشفت حقيقتها حين قالت تخاطب ذاتها في صفحة 17:
” تمرّدي ..
ثوري واثأري ..
وإذا اقتضى الحال القصاص
اطعني .. لا ترحمي
أخرجي الحزن من عينيك ..
وابتسمي سيدتي …” .
ورغم حدة الإنتقام نلاحظ اعترافها بحزنها الكبير لحظة الإفتراق وهي القائلة :
“حين افترقنا مات قلبي كمدا
واكتظ بالأحزان نبضه ..” .
كما اعترفت بأن هذا الرجل الذي استباح دمها بين فكره و لحظه, ما زالت تحبه بلا انقطاع ولا قيود . فقط لأنه الحقيقة ,والحقيقة تجمع كل المتناقضات ,الحب والكره , والعفة والخيانة , والصدق والكذب , والأبيض والأسود . وحبها له في حد ذاته كان مغامرة وتحديا, وهي القائلة في صفحة 27 :
” لا تظننّ أنني كنت يومها
الحمقاء الساذجة :
لو تذكر ..قلت لك ,
اعتبرني في حبك مغامرة ..
عاملني كما عاملت قبلي كلّ عاهرة ..
وليتك تعلم أنّ للعهر عندي
مفاهيم لا تدركها ذكورة بلهاء ..
العهر عندي شجاعة و تمرد
وطموح وتحدّ لك …”
ورغم تمردها وتحديها هاهي ببراءة الطفولة تسأل هذا الغائب الحاضرأينك ؟وكان حبها له قد اغتالها بكاتم الحياة .وكم تعبت وهي تقتفي عطره المراوغ بلا انقطاع بعد أن حفر الخذلان في الجرح عميقا حين قال لها في صفحة 40 :
” ليتك مثل النساء
يا طفلة عنيدة
لحدود الجنون …” .
وبكل جرأة تواجه ذكورته الوهمية المكتظة بالعقد فتقول :
” رجل مصاب بعقدة كرونوس
وأنا امرأة
لا تخاف صمت الأمكنة
ولا ترهب تسلق مرتفعات الهوى
وليست مصابة بعقدة سندريلا …” .
ولعلها بهذه المواجهة الشرسة قد تهد ركنا من قصره المشيد وتلقي به في غياهب النسيان .
ولأنها شاعرة عابرة للحدود, لا تعترف بالأقفاص والأسوار والقضبان. ودائما تتوسد الأحلام , وبأجنحة نور متمرد تحلق بعيدا ,وتمضي في الزمن إلى حكاية امرأة العزيزمع النساء . وتدعو نسوة القبيلة في ليلة مخضبة بالدماء وتحدثهن عن ما يحدث الآن في غزة ,فلعلهنّ يشهرن السكاكين في وجه الغاصب المحتل , ويصرخن من الأعماق .وهي التي حثت النساء على الثأر حين قالت :
” الثأر الثأر أيتها النساء …
اثأرن للأطفال ..
للشباب
للثكالى
للتربة و الماء
.. ..
اثأرن
لأرض مغتصبة
منسية في ركن محشورة …”.
هذه المرأة الثائرة لا تكتفي بالريح التي لا تحفظ اتجاهها بل تتحول فجأة إلى زوبعة, فتقول عن نفسها في صفحة 63 :
” أنا زوبعة في كاسات الردى
قد أتحول إلى رصاصة
تطلق ويكون لها صدى ..” .
وتستمر في تمردها على هذا الرجل الوسيم مثل زهرة بلاستيك بلا روح و لا رائحة وتعترف بأنها راهنت عليه وكان الورقة الخاسرة لأنه في الحقيقة رجل مستحيل الإرضاء فتسأله في صفحة 85 :
” ما الذي بوسعي أن أفعله
لترضى ..
أنت رجل مستحيل الإرضاء ..
وأنا امرأة بسيطة جدا
سقطت سهوا من أبجديّة الهوى …”.
ومن خلال هذه النصوص الفصوص تأكد لنا أننا أمام شاعرة استثنائية سلاحها كلماتها التي تصيب كلّ أعداءها في مقتل .ونلاحظ أنها واجهت أحد الشعراء , بل واجهت كل الشعراء بسلاحها الفتاك حين تحدثت في صفحة 82 عن شاعر كبير قال لها : أنت لست شاعرة . وجاء ردها مزلزلا مثل السهم القاتل :
” شاعر كبير
سحق شاعرة
كان يراها في بستان الشعر
حشرة ..
ومن (لستِ) هذه وبكل تحد
وُلدتْ شاعرة …” .
وفي موقع آخر واجهت كل الشعراء فقالت صارخة :
“يا معشر الشعراء ..
أنا لهذا الوهم عاشقة .
أقيموا عليّ الحدّ,
واهدروا دمي إن استطعتم ..
فكلكم عشاق .
والفرق بيننا ,
أنا في العشق جريئة
وأنتم الجبناء …” .
وفي تحديها لكل من حولها ذكرت مجموعة من الرهانات لعل أبرزها ما جاء في صفحة 86 :
” على امتداد حياتي ,
لم أجد وقتا كافيا لإتمام
كل مهامي ..
وكان بوسع الربّ ,
أن يبعث رسالة بالبريد ,
أو رسالة قصيرة
ليعلمني بتاريخ وفاتي .
وهكذا أستعدّ
وأمارس أبسط حقّ …” .
فهل سبق أن قرأنا أكثر من هذا التمرد ,وهذا التحدي من امرأة شاعرة تسمي الأشياء بأسمائها وتنسف قاموس الطابوهات فقط بالكلمات ؟…