تونس بين جراح الماضي واستحقاقات التأسيس
من الفوضى إلى مشروع الدولة الديمقراطية
البشير عبيد / تونس
قلت منذ سنوات، وكتبت مرارًا، إنهم لن يكفّوا عن التباكي على ضياع الفريسة. من خبرهم جيدًا، وعرف كيف كانوا يتحركون ويخططون مستندين إلى سطوة السلطة القاهرة حين حكموا، يدرك أنهم لا يغادرون مشهد الانتهازية بسهولة.
فقد استُخدمت كل الأدوات المناقضة لمنظومة الأخلاق: من استغلال المؤسسات، إلى توظيف الدين، وصولاً إلى العنف الرمزي والمادي. هؤلاء، حين يُسحب من تحتهم البساط، لا يترددون لحظة في الانحدار إلى قانون الغاب.
هذا النمط السياسي الانتهازي يشبه سلوك الضباع: انتظار اللحظة، المراوغة، ثم الانقضاض. لا يتحقق هدفها إلا بمزيج من التكتيك والاستراتيجية، وهو نهج استلهمته بعض الأحزاب الفاشية من صراعات البقاء في الطبيعة.
لكن التاريخ لا يُخدع طويلًا. فلا تبريرات الماضي، ولا محاولات تجميل “العشرية السوداء”، تستطيع الصمود أمام ميزان الزمن الذي يفرز الغث من السمين.
—
أزمة فقدان البوصلة
لقد ضاعت البوصلة. تيه سياسي واضح لدى المعارضة، التي تنكر أخطاءها، وتتمسك بخطاب التبرير، في وقت تتعمّق فيه أزمات البلاد المركبة.
حركة النهضة ومعسكرها لم يعترفوا يومًا بثقل مسؤوليتهم في انهيار ثقة المواطن، وتآكل المؤسسات، والانقسام المجتمعي. عشر سنوات من الحكم لم تخلّف سوى الشك، وتراجع التنمية، وتضخم الوعود.
لكن الأزمة اليوم ليست فقط سياسية، بل حضارية. لا أحد يملك مشروعًا قادرًا على تقديم إجابات واقعية، ولا خطابًا يتجاوز الشعبوية. نحن أمام فراغ حقيقي في الرؤية، وتآكل في شرعية الجميع.
—
تشظي الأطراف وتناقض المشاريع
المشهد الراهن ليس مجرد نزاع بين الحكم والمعارضة، بل تجسيد لانهيار الثقة الوطنية الجامعة. لكل طرف مشروعه، ولكل فئة لغتها، ولا وجود لأي تقاطع بينها.
هذه التناقضات الفكرية والإيديولوجية عميقة، ولا تتيح الحد الأدنى من التفاهم. بل إن الصراع نفسه صار غاية لا وسيلة، فيما تُستبدل الحجة بالعنف الرمزي، والاختلاف بالتخوين، والمعارضة بالتحريض.
الأخطر أن هذا التمزق تجاوز النخبة السياسية، لينتقل إلى الشارع: شعبوية متصاعدة، رفض متبادل، واختناق فكري يجعل من إنتاج الحلول شبه مستحيل.
—
نحو عقد اجتماعي جديد
ما يحتاجه التونسيون الآن ليس مجرد تغيير في الوجوه، بل تأسيس جديد. عقد اجتماعي شامل يُعيد رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويعيد الاعتبار للكرامة والحرية والمساواة.
هذا العقد لا يُبنى على محاصصات حزبية، ولا على إقصاء متبادل، بل على حوار وطني مفتوح حول مستقبل البلاد. حوار يعالج كل القضايا: من أزمة الاقتصاد إلى معضلة العدالة الاجتماعية، ومن غياب الثقة إلى وهم التوافقات السطحية.
في الرمزية الثقافية، يُحيل المخاض إلى الألم، لكنه أيضًا يبشّر بولادة جديدة. وتونس، في هذا المعنى، تعيش مخاضًا بين اليأس والأمل، بين الانهيار والرغبة في النهوض.
—
المشروع الجامع: لا مكان لأعداء الحرية
لم تعد البلاد تملك ترف التأجيل. تونس بحاجة إلى مشروع ديمقراطي اجتماعي، مدني، تنويري. مشروع لا يكتفي بالشعارات، بل يُترجم إلى سياسات تُنتج الثقة، والأمل، والكرامة.
هذا المشروع يجب أن يلتف حوله الجميع: قوى مدنية، نخب فكرية، مؤسسات وطنية. ويجب أن يُقصي من داخله كل من يعادي الحرية، أو يبرر الاستبداد، أو يسعى لإعادة إنتاج الشمولية باسم الدين أو الحداثة الزائفة.
تونس رغم كل الجراح، قادرة على النهوض. لكن لا نهوض دون الاعتراف بالأخطاء، ودون مشروع جامع يعيد للمواطن ثقته، وللدولة هيبتها، وللمجتمع توازنه.
– كاتب صحفي مهتمً بقضايا التنمية و المواطنة و النزاعات الإقليمية و الدولية و تجليات المشهد الثقافي العربي.