قراءتي في رواية(البارونة)
للروائي التونسي : Abdelkader Ben Elhaj Nasr
———-
—1–تـصـدير
قبل أن ان أسوق قراءتي
أورد تعريفا لتقنية (Cliffhanger)(هي تقنية سردية تترك القصة عند نقطة مشوقة أو حاسمة مما يثير فضول القارئ ويجعله يرغب في معرفة ما سيحدث بعد ذلك) وهذه التقنية سأحاول سحبها على رواية (البارونة)لأن استخدام أو توظيف تقنية(Cliffhanger )في نهاية كل فصل
غذّت الرواية بطاقة درامية متصاعدة-وحافظت على اهتمامي بجميع الشخصيات دون غض الطرف عن أي منها وأظن انه سيكون شأن كل من سيقرأها-ثم أن النهايات وظّفت كمساحات تساؤل لا كإجابات مماجعل منها رواية أشبه بلعبة شطرنج نفسية …
—2–في رحـــاب الرواية
البارونة كرواية تكتب بين الوقائع والفراغات
لــذا
(البارونة)—ليست فقط رواية ذات فصول تنتهي بارتباك ما أوحيرة مستعصية وإنما هي نص قائم على مبدأ التعليق المتواصل…فالـشخصيات كلها تقريبا تقف على حافة مصير ضبابي
—مصطفى من السجن يبحث عن الحرية مع استعادة تعريفه الذاتي…
—أشواق البارونة جسد متاح وفكر رمّاح وطموحها السياسي لا يموت بل يكبر ويتنامى
—فرح صعدت فجأة وتخاف من سقطة غير معلنة وبلا مبررات
—بلبلة الصغيرة حلمها أن (تصير شيئـا)لكن من يضمن عدم ابتلاعها من قبل المؤسسة التي أنتجتها…
بلبلة الأم -امرأة قوية تعيش على حافة خطر الاختيار وريح التغيير تطرق بابها في كل خلوة مع نفسها
وهذا التوازن على الحافة – هو ما يجعل الزمن السردي مشحونـا بتعدد الاحتمالات ومفتوحـا على مصراعيه…
وتقنية (Cliffhanger )هنا ليس أداة تشويق فحسب بل أداة قهر سردي…مما يجعل كل نهاية فصل في (البارونة) شكلا من أشكال الإذلال الوجودي
فالقارئ لا يُعطى الخاتمة بل يُترك في عراء المعنى أو على ناصية المعنى إن صح التعبير
والشخصيات تُجبر على السكوت أو الإرجاء كما أُجبر مصطفى على الصمت داخل زنزانته… والأحداث تُبنى ثم تتراجع أو تُعاد من نقطة لا نعرفها كما في مكيدة فرح لأشواق وفي مكيدة أشواق لفرح على طريقة( يضحك ملء شدقيه من يضحك أخيرا)
وكأن الكاتب يقول
(لن أُرضي أحدا لا القارئ الفضولي ولا الشخصية المتمردة ولا حتى المنظومة السياسية التي تحاول فرض نهايات جاهزة)
أما البنية المتقطعة في (البارونة) فهي تُقاوم فكرة السرد المغلق…كما مصطفى يُقاوم مصيره وكما فرح تحاول الانقلاب على (البارونة الأصلية)وكما (ا الوزير يحاول التمديد في سلطة تتهاوى…)
فنجد أنفسنا أمام بناء روائي يتعمد أو يرفض عدم إغلاق القوس، لأن السلطة نفسها غير مستقرة -والحقيقة غائبة أو مُزوّرة والعلاقات مُخاتلة
والهُوية قابلة للتبديل (من راقصة مناسبات إلى راقصة محترفة اي موظفة -ومن مهندس إلى كبش فداء )-لـذا
هذا التشظي المقصود هو صورة للواقع العربي المعلّق بأكمله…
الملاحظ أن كل شخصية تكتب روايتها داخل الرواية
فمن خلال تقنية (Cliffhanger ) كل شخصية في (البارونة)تخلق رواية ضمن الروايةأو ما يسمى بـ (رواية داخلية جديدة ) هذا حسب فهمي المتواضع —فمثلا مصطفى يريد أن يكتب (رواية المهندس الوطني الذي خانه الجميع) -أشواق تكتب رواية (المرأة التي كادت أن تصبح وزيرة)—فرح تكتب رواية (انقلاب على البارونة)
-بلبلة تكتب رواية (من الخبز إلى ترف الرقص في فرقة لها اسمها)
لكن الكاتب الراوي بيده خيوط اللعبة السردية فهو من يقاطع سردهم يعيدهم إلى السكوت القهري أو الغموض القسري خاصة عندما يعيد مصطفى المتمرد عليه إلى (بيت الطاعة ) فيذعن -وهذه التقنية تقوّي عنصر اللايقين-فالرواية ليست هي ما تروي الشخصيات، بل ما تُمنع من روايته…
وزمن السرد في (البارونة ) زمن القلق لذا تقنية (Cliffhanger )هنا جعلها الاديب عبد القادر بن الحاج نصر تؤسس لما يمكن تسميته بــزمن القلق الروائي—أي أننا لا نعيش تطورا طبيعيا في الأحداث بل توتـرا دائمـا يهدد كل شيء بالانهيار فالجسر سيتصدع -والمنظومة الوزارية قد تُقلب-والسجن قد يتحول إلى منصة-الحب قد ينقلب مؤامرة وخيانة عظمى-وبالتالي القارئ لا يقرأ ليعرف (ما الذي سيحدث؟)بل ليعرف (هل سيُسمح له بأن يحدث؟ )-(وهل سيتحقق وعد السرد أم سينقلب إلى قيد جديد ومتاهات يتعذر الخروج منها؟)
—3–أخــتـــم
إن تقنية Cliffhanger في رواية (البارونة )-ليست وسيلة لإبقاء القارئ مشدودا فقط بل هي إعلان سردي عن تفكك المعنى وفشل السلطة في فرض تفسير واحد…
روايتك اديبنا أيقونة الرواية التونسية تنتمي إلى ما أسميه بـ(سرد القلق النازف)حيث
كل لحظة هي مفترق طرق_
وكل شخصية هي مشروع سقوط—وكل مشهد هو جسر مهدد بالانهيار…وهذا ما يجعل الرواية بامتياز-مراوغة- متعددة الأصوات -ومرآوية—
والرواية المرآوية
(هي رواية تشبه المرآة لا تكتفي بسرد الأحداث بل تراقب طريقة سردها وتُسائلها -الشخصيات فيها لا تعيش فقط بل تُدرك أنها داخل لعبة سرد-بعضهم يتمرّد والراوي يُقاوم ذلك—
كأن الرواية تتأمل ذاتها وتضع القارئ في موقع الكاتب فتجعله متواطئـا حائـرا أو حتى مسؤولا)
وحسب رأيي المتواضع
فإن الكاتب نجح في استثمار
تقنية Cliffhanger لخلق ذروة غير مكتملة في نهاية كل فصل من (البارونة )بحيث يترك القارئ متعطشا لمعرفة ما سيحدث لاحقا وهذا حدث معي— ووجدتها تقنية مثالية حيث برع الكاتب في توزيع الأدوار بين شخصيات متقلبة وغير ثابتة-وكل واحدة منها تنطوي على لغز أو مصير محتمل يستحق التتبع…
شكرا اديبنا المبدع على إهدائي نسخة من (البارونة)
وأتمنى
إمتاعا ومؤانسة لكل من ينوي قراءة (البارونة)
فائزه بنمسعود
9/6/2025