رؤية نقدية تأويلية لقصيدة “شاعرة المدائن” للشاعر “هادي بن هولة ”
1__ في العتبة الأولى :
العنوان كمدخل تأويلي “شاعرة المدائن” يفتح أفق التلقي على مستويات متعددة :
أ__الدلالة الرمزية: “شاعرة” ليست مجرد صفة بل هي هوية وجودية تُضفي طابعًا أنثويًّا خلّاقا على المدينة وهي” بيروت” مما يوحي بأنها كيان حي يُنظَم فيه الشعر كأنه نَفسٌ حي أما “المدائن” جمع “مدينة “فتشير إلى عمقها الحضاري المتعدد وكأنها تجسيد لكل المدن العظيمة
ب __الإيحاء الأسطوري: يذكرنا العنوان بـ”شاعرة” كـ”كاهنة” أو “نبية” مما يعطي بيروت بعدا مقدسا كأنها مصدر إلهام دائم
ج__التناص : قد يحيل العنوان إلى تقاليد الشعر العربي الذي يمجّد المدن (مثل قصائد المديح النبوي أو رثاء المدن) لكن مع تحويل المدينة إلى ذات شاعرة لا موضوعا للشعر فقط
2__ الانزياحات السيميائية والدلالية في القصيدة :
أ__ اللغة كمنفى : نرصد التكرار في البداية “منفى هي اللغة التي انكتبت بها” حيث يحوّل اللغة إلى فضاء تشريدي لكنه منفى إبداعي حين يصبح الاغتراب مصدرًا للجمال في قول الشاعر :”من عشقها وجمالها”
يتمثل الانزياح هنا في تحويل “المنفى” من مفهوم سلبي إلى فضاء مقاومة لنرى اللغة وهي تنتصر على كاتبها في قوله : “هي وحدها انتصرت على من كان يكتبها”
ب__ بيروت كـ”طائر الفينيق” وهنا يكمن ما يسمى ب” الانزياح الأسطوري” ويتضح لنا أكثر في قوله : “من ركام الموت ينهض طائر الفينيق” حيث تتحول المدينة إلى رمز للخلود رغم الدمار وهذا الانزياح يجعل بيروت كيانا متجاوزا للواقع المادي
وتتجلى لنا السيمياء الدينية/الأسطورية في ارتباط الفينيق بالبعث مما يعطي المدينة بعدا مقدسا
ج __الحضور الغائب للشعراء : ويتمثل في :
_الانزياح الزمني في قوله :”كانوا ثلاثتهم هنا /قد كنت رابع ظلهم”وهذا يحيلنا على “محمود درويش” و “نزار قباني “و”خليل حاوي” وهو لا محالة مدخل النص في حوار مع الأموات وكأن الشاعر يتقمص روح المدينة عبر أرواح هؤلاء الشعراء
_ الانزياح الدلالي وهنا يخلق الشاعر مثلما”زمنًا شعريًّا” موازيًا حيث الماضي والحاضر يتداخلان في فضاء بيروت
3__ الأبعاد الجمالية للقصيدة :
أ__ الموسيقى الداخلية :
_ التكرار الإيقاعي مثلًا في قوله : “بيروتُ شاعرة المدائن كلها” مما يُحدث تأثيرا ترنيميّا وكأن القصيدة نشيد للمدينة
_ الجناس بين “انكتبت” و”انبعثت” إذ يربط الشاعر بين فعل الكتابة والبعث مما يعزز فكرة الخلود
ب__ الصور الشعرية المبتكرة :
قام الشاعر بنوع من إدماج الوجود الشخصي (فينا ) مع الوجود الجماعي في قوله : “بيروت فينا الشعر والأدب المقاوم” مما يجعل الشعر مقاومة وجودية
_ وفي قوله “غسّان أيضا كان يسكن ههنا” نجد إحالة على الشاعر “غسان كنفاني حيث يكمن الانزياح التاريخي إذ يحوّل بيروت إلى متحفٍ حيٍ للذاكرة الثورية
4__ التأويل الرمزي للمدينة:
إن بيروت في القصيدة في رأينا ليست مكانًا جغرافيًّا بل هي “نصٌّ مفتوح” كما قال : “التي انكتبت بها وجعًا وحلمًا” أي أن المدينة تُقرأ كقصيدة فهي :
__”أنثى متعددة الأوجه وهي أمّ حين يناديها قائلا : “يا أم العرائس” وهي عاشقة : “روح عاشقها المتيّم” وهي مقاومة: “ضاد الفحولة والبطولة”
__ذاكرة جماعية:
إنها “صوت لفيروز الحقيقة والحياة” تربط المدينة بأيقونة الفن مما يجعلها رمزًا للجمال المقاوم
5__ في خاتمة دراستنا للقصيدة نؤكد على أن المدينة كـ”نصٍّ لا يموت”
والعنوان “شاعرة المدائن” يلخص رؤية هذه القصيدة فبيروت ككائن شعريٍّ خالد يُبعث من رماده مثل الفينيق ويُكتَب بلغة الوجع والحلم من خلال ما رصدناه من الانزياحات السيميائية (المنفى /الفينيق/ الظلال الشعرية) حيث تتحوّل المدينة إلى فضاء تأويلي مفتوح يتداخل فيه الفردي والجماعي التاريخي والأسطوري ويتقاطع الذاتي مع الموضوعي
وهكذا تصبح القصيدة نفسها “طائر الفينيق” نصًّا يقوم من ركام المعاني يختزله الشاعر بقوله “هذه المدينة لن تموت”
(الدكتورة الناقدة مفيدة الجلاصي)
القصيدة
شاعرة المدائن
منفى هي اللغة التي
انكتبَتْ بها
كلُّ الحروفِ
قديمها و حديثها
منفى هي اللغة التي
ذهَبَتْ هباء ليس
إلاّ ما بدا
من عشقها و جمالها .
هي وحدها انتصرَتْ
على من كان يكتبها
روحا تعانق ذاتها.
هي ذي المدينةٌ،
لم أحلَّ بها لكنّها
في خاطري ،
بيروتُ
ساحرة المدائن كلِّها ،
ما كلُّ هذا الوجدِ يرحلٌ
راسما هذي الرؤى ،
بيروتُ
شاعرة المدائنِ كلِّها
صوت لفيروز الحقيقة
والحياهْ .
من عشق صورتها البهيّةِ
من ركام الموت ينهض
طائر الفينيقِ
أصرخ عاليًا
هذي المدينة لن تموتْ .
وأعود لي
قد كنتُ أحلم أن أرى
في شارع الحمراءِ
درويش القصائدِ يلتقي
بنزارها ،
أو علّني قد أنتحي ركنا بمقهى .
قارئا إحدى الصحائفِ
أو كتابا قادحا
عن سحرها ،
ويجيء صوتكِ هاتفا
من عمق ذاكرة المكانْ.
غسّان أيضا كان
يسكن ههنا يرتاد
حانات المدينة
حالما أن يلتقي يوما
بغادتهِ الجميلة ههناكْ
في ما وراء البحرِ رانية
لبيروتَ التي انكتبتْ بها ،
وجعا وحلما نابعا،
من روح عاشقها المتيّمِ كي
تخطَّ حروفها ،
ألما وطيفا من خيال
راحل أبدا لها .
بيروت يا أمَّ العرائسِ
والشواعر ليتني يوما
أراني ههنا أمتاح
من ذاتي لأمضِيَ راحلا.
بيروت فينا الشعر
والأدبُ المقاومُ
والكتاباتُ التي من نسغها
لغة الفوارس ، ضادها انبعثتْ بها
من أرضِ كنعانَ المجيدة
وحدها انبثقَتْ إذن
ضاد الفحولةِ و البطولةِ
والرجولةِ و الحكاياتِ
الجميلةِ كلُّها من أرضنا انبثقتْ ، إذن
عذرا لبيروت الصٌّمودِ
مجدَّدا .
بيروت يا جرحَ العروبةِ كلِّها ،
يافخر أمّتنا المجيدةِ وحدها .
بيروت شاعرة المدائِنِ كلِّها ،
أنا ههنا صوت لشعر قادمٍ
أرنو إليكِ
مردِّدا أمّ المواقف
و المدائن لن تموتْ
وهي التي من سحر شاطئها
الجميلِ تفتّحت شعريّة المعنى بها،
هذي المدينة يارفاقَ الرُّوحِ
شاعرتي أنا .
كانوا ثلاثتهم هنا ،
قد كنتُ رابع ظلِّهمْ ،
محمودُ كلِّ قصيدةٍ
ونزارُ أشعار السياسة و الغزلْ ،
وخليل قافية يجيء
من الرّدى كي نعبر الجسر
الذي كان ابتناهٌ لنلتقي
نثرا وشعرا عابرين لذاتنا
للرُّوحِ نهرا من رمادْ.
كنّا هنا و قد ارتشفنا
من نبيذ جمالها
روحا وراحا قد تعتّق عشقها
في مقلة الزمن الجميلْ .
هذي المدينة وحدها
أمّ الشواعر و المدائن كلِّها ،
كنا جميعا يا رفاقَ الرُّوحِ
في درب الكتابةِ،
فليكن دربا وضيئا دائما
أمُّ الشواعرِ و المدائن كلِّها
صوتا لشعرٍِ مترعٍ بالحبِّ
ذي أمّ الشواعر والمدائن لن تموتْ
” الشاعر التونسي “الهادي بن هولة”