قراءة في ديوان ***تسكّعٌ في أدغال العقل***
للشّاعر **توفيق النّهدي**
***
بقلم الشّاعر
**فتحي مديمغ**
***
وجب التّطرّقُ للحديث عن المدلول الثّابت و المدلول المتغيّر و المدلول المُختلف في تراكيب اللّغة العربية قبل أن نسبَحَ في لاهُوتِ المخطُوطِ نظرا لحيويّة المفرداتِ في مُعْجَمِهِ و ما توحي به من عُمق الدّلالة (بعيدا عن آحاديّة القراءة)… و بالتّالي فنحن أمام غابةٍ مُتشعّبَةٍ من التّساؤلاتِ الوُجوديّة في أبعادها المُختلفةِ… و في منأى عن الاحتياجاتِ التّسويقيّةِ… فهي تجاذُبَاتٌ و ذاتٌ و سِيرةٌ و حياةٌ بالنّسبة لصاحب المخطوط… الشّاعر الشّاعر “توفيق النّهدي” الذي يقتَنِصُ ضميرَ العقل الواعي فيَسحبكـ برشاقةٍ إلى حقيقةِ ديوانِهِ “تسكّعٌ في أدغال العقل”، و هي حقيقةٌ في منظوري “تَسَكّعٌ في إعْمَال العَقل” ليصدُمكـ و يُقلقَ راحتَكـ في عُقر سَكينتكـ و يخلقَ منطِقًا يُغلِّبُه على منطقكـ و يَصنع مراحلَ تعبيريَّةً تتستّر بعباءةِ المُفردَاتِ فتُضمِرُ ما لا تُظهرُ… فقد وردَ العنوان مُعقَّدًا مشحُونًا بنُتُوءَاتٍ أضْمَرَتْ دَهَالِيزَ عَقِيمَةَ المَنفَدِ مَشحُونَةً بِسَرَادِيبَ مًضَاءَةٍ بِظَلامٍ نَيِّرٍ نَاعِمٍ يسطُو على مُجْمَلِ المَعَانِي فَأبَانَ على حِنْكةٍ عاليةٍ من الدّمْج اللّغَويّ الحقيقيّ مِمَّا نزع عن المُنْجَزِ الأبعادَ و القيُودَ و أنْزَله واقعًا مُتغيّرًا و زيّنَهُ بروحِه بعيدًا عن دَنَسِ الاضطراباتِ و تضَارُبِ الأفكارِ و التّأويلاتِ، و هذا ما عَمِلَ عليه الشّاعر “توفيق النّهدي” في ضوء مخطوطه “تسكّعٌ في أدغال العقل”، فأخضعَ الكتابةَ إلى مزِيجٍ لغويّ يُضمرُ مَواقفَ مُتنوّعةً بتنوُّعِ القصيدِ… و اقْتَنَصَ فَرَاغَاتِ العقْلِ الثَّائِرِ ليَهِيمَ دَاخِلَ نَوَايَاهُ لِيُحَوّلَ بَعْضًا مِمَّا سُلِبَ منهُ إلى تفكِيرٍ يجْتَثُّ سَلبِيّتَهُ لتَصِيرَ ضَميرًا يَحْيى لا ضَمِيرًا يَمُوتُ.
( صفحة 07 :
لا أحَدَ يملكُـ المعنى لا أحد ينبغي له أن يُقاتلَ من أجل أيّ معنى و ليس المعنى وراءَنَا، بل أمامنا لا نملكُهُ، بل نتّجِهُ نحوَهُ باستمرار… “أدونيس”
إذْ بميْسور الشّاعر أن يُسايِرَ المُعجمَ العَاديّ المُتعامَلَ به و لكنّهُ خيّرَ أن يُلائِمَ المُعجمَ اللّغويَّ وِفْقَ سُمُوِّ التّأويلات… فلا يتركـ مجالا أن يَستنبطَ القارئ مَسارا واحدا في قراءته… بحيث سعى إلى استخدام اللّفظ المُعقَّدِ بمفاهيمَ و أساليبَ و وظائفَ و معانيَ و دلالاتٍ تَرمُزُ إلى تعلّق الشّاعر بالمنحى الوُجُوديّ…
( صفحة 15 / سطر 06 : قصيد “رقصة السّلو slow” :
أهمس بلا كلمَاتٍ تحْت أذُنها
بأنفاسِ الحياةِ… )
فيجعَلُ من ناقوسِهِ يرنُّ و يُعْلٍنُ موْعدَ ساعةِ اللّقاءِ بما يُملِيهِ عليهِ سُلطَانُهُ فيُصنّف و يُرتّب و يُعطي رُؤًى تتشكّل مَنافذُهَا و تتبدّل أسَاليبُ تجلّياتها و تتعدّد صُورها و تتطوّر فتؤثّر و تتأثّرُ…
و قد حَشد الشّاعر الرّمز و الإيحَاء و سَخّر القامُوسَ ليَكتُبَ نصًّا تَجْديديًّا مُختلفًا يَعسُرُ ترتيلُهُ في غِيَابِ الرّوحِ، فتنفَلِتُ ذاكرةُ الشِّفَاهِ و تَرْتَبِكُـ لِتُمَارِسَ كتابةً أخرى لِلشّعْرِ، و تَتَعاملَ مع اللّغة بغَيْرِ المعهودِ وَ تَنْسِجَ نصًّا مختلفًا مُتفرّدًا مُتمرّدًا يَصْنَعُ من الخمُولِ يَقْظَةً و من الرُّكودِ حَرَاكًا… حتَّى لا تَنْعَقَ غِرْبَانُ الأسَى حول جُثَثٍ حيّةً بالأنْفَاسِ…
( صفحة 26 / سطر 01 : قصيد “لنَفتَرِضْ” :
أقرَأُ بيْنَ دَفَّتَيْ كِتَابِ الوُجُودِ
ألاّ وُجُودَ
إلاّ واجبَ الوُجُودِ… )
هي تجربة جديدةٌ تؤسّس لرؤية أخرى في نواميسَ نحْتِ النّصّ المُبشّرِ بنشأة القصيدةِ التّجديديَّة في عالم الشّعر الحديث المُتّسِمِ بالمشهَدِ الفلسفيّ…
(صفحة 27 / سطر 06 : قصيد “نَبيذُ الرّضابِ” :
تَعَرَّتْ أمَامِي
فِي خَمْرَةِ الظّلامِ
إلاّ من طُهْرِ النّوَايَا… )
نحن أمام قاموسٍ مُتعدّدِ المشارب و رؤًى مُتداخلةٍ و أدوارٍ يَشُوبُها غُموضٌ إلى درجة عدم الاستقرار في الفهم و التّأويلِ فيكون الحاصلُ ”رجْرَجَةً” و ”رَهْوَجَةً” و تأمّلاتٍ و تفَاسيرَ تَتْرُكُـ جَميلَ الأثرِ في اختلافِها و تَبَايُنِ تَوجُّهَاتِها… فتتصادمُ التَّفاعلاتُ و تَتَكتَّلُ التّجَارِبُ من أجل الوصول إلى المعنى المنشودِ بأكثَرَ إشراقا و أغنَى أمثِلةً…
فالجماليّةُ و تَنوّعُ الأنسَاق، و الرّشاقةُ في الانتقال من نسق جَماليّ إلى آخرٍ، يُشير إلى أنّ المَنتُوج مُتحرّكٌـ، و أنّ الصّورَ الإبداعيّةَ رَامِزةٌ و رُموزُها كثيفةٌ ومُتعدّدةٌ.
( صفحة 63 / سطر 01 : قصيد “الإنسَانُ الأخيرُ” :
أسْبَحُ فوق بحرٍ من يقِينٍ
أنا الحائرُ الأخيرُ
عقلي عَقيدَةٌ
شريعتِي إنسانٌ
أنا المُؤمنُ الأخيرُ
أنا اليقينُ قبل الأخير… )
فالشِّعْر بالنّسبة إلى ”توفيق النّهدي”، ارتِجَاجٌ مُؤلِمٌ في ذاكِرَةٍ تأبى التّدَاوي، و صوتُ المعاناة، و فِرارٌ من الماضي و إعـلانُ استقلالٍ، و دعوةٌ إلى شعورٍ أشَـدَّ عُمقاً و فكرًا أكثرَ دقّةً فيَنْمُو الأملُ و تُزْهِرُ اليَقْظَةُ و تَتَبدّلُ الأوهامُ حِلْمًا في واقِعٍ يتغيّرُ و ينتمي إلى كلّ إنسانٍ مِمّا يجعل من العُزلة سبيلاً للتّواصل و طريقةً للوجود…
( صفحة 75 / سطر 08 : قصيد “زمَنُ النّشُوءِ” :
سَأعِيدُ ترتِيبَ زمنِ النُّشُوءِ
كيْ لا يَشيخَ الهُدُوءُ
و تَرْبَضَ العاصِفَةُ
سأفتحُ أبوابَ العودَةِ
على مِصْراعيْهَا
و تمُرّ الوُجُوهُ التّليدةُ… )
و الكتابة عندَهُ ملاذٌ تُعينُ على تعميق ما نشعرُ به أحياناً لإيقاف الزّمن و حينا آخرَ للخطْو خارج مداراتهِ، فقام الشّاعر ”توفيق النّهدي” بتوظيفِ المُثيرات الجماليّةِ التي تُؤسّسُها القصائد في ديوانه ”تسكّعٌ في أدغال العقل” و التي ترتكز على مدى التّفاعل بين الصّور التي اعتمدها الشّاعر في ذهنه و الصّور التي رسمها القارئ عند قراءته للمكتوب ممّا يدلّ على أنّ كلماتِ الشّاعر تتحوّلُ في منحًى آحَرٍ لترسُمَ الحيرَةَ في زمنٍ تعَادَل حضورُه مع استمرار الحياةِ التي رُسِمت بحبر الرّوح على صفحاتِ الإ