نور الدين الرياحي… حين يتماهى اللون مع الذاكرة التونسية
– البشير عبيد / تونس
في عالم تتكاثر فيه الصُوَر وتتراجع فيه القدرة على الرؤية، ينهض الفنان التشكيلي التونسي نور الدين الرياحي كصوت بصري هادئ، لكنه شديد النُّفاذ. ليس من أولئك الذين يُحدثون ضجيجًا إعلاميًا أو يسعون وراء الأضواء، بل من أولئك الذين يبنون تجربتهم لبنةً لبنة، بعيدًا عن الاستعراض وقريبًا من الوجدان الشعبي والذاكرة الجمعية.
ولد نور الدين الرياحي في مدينة العروسة، التابعة لمحافظة سليانة، وهي منطقة ترتبط في المخيال التونسي بالطبيعة الصافية وبالحنين إلى طفولة ريفية تشكّل وجدان أجيال كاملة. ومن هذه البيئة، نشأ الرياحي محاطًا بالتفاصيل الصغيرة التي تشكّل نواة الجمال العميق: النوافذ الخشبية، أبواب البيوت القديمة، البساتين، الوجوه السمراء والعيون التي تقول أكثر مما تصمت. تلك التفاصيل ستعود لاحقًا لتملأ لوحاته وتصبح علامات مميزة في تجربته الفنية.
من التقنية إلى التعبير: الفن كامتداد للمسار الحياتي
قد لا يبدو الطريق الذي سلكه الرياحي نحو الفن التشكيلي طريقًا تقليديًا. فهو لم يأتِ من الأكاديميات الفنية، بل من حقل الإعلامية والملتيميديا، الذي تلقّى فيه تكوينًا مهنيًا متينًا، مكّنه من ولوج عالم الشركة التونسية للسكك الحديدية، حيث عمل لسنوات طويلة في قسم تقني متخصص.
لكن هذه الخلفية التقنية لم تكن حاجزًا أمام الموهبة، بل شكّلت – على العكس – أرضية مختلفة لصياغة رؤية تشكيلية فيها من التركيب البصري والصرامة التكوينية ما يُعطي لأعماله خصوصية لافتة. في كثير من لوحاته، نشعر بهذا التوازن الفريد بين الحساسية الفنية والدقّة الهندسية، بين تدفّق اللون وبُنية الشكل.
إنه فنان تشكيلي بصري تقني في آن، يجعل من المعرفة الرقمية وسيلة لتعميق أدوات التعبير لا لتحجيمها. وهذا ما يجعل أعماله تتفادى التكرار أو الوقوع في فخ النمطيّة، لأنها تنبع من تجربة معيشة حقيقية، من حياة متقاطعة مع التكوين والبرمجة والتصميم، لكنها تتطلّع إلى التعبير، إلى الحلم، إلى الانفلات من قيود الشاشة.
الواقعي المُصفّى: مشاهد تعيد الحياة إلى الذات التونسية
في لوحات نور الدين الرياحي، تحضر تونس العميقة لا بوصفها مشهدًا سياحيًا أو صورة مستهلكة، بل كروح تُستعاد. القرية ليست خلفية، بل بطل رئيسي. المرأة الريفية ليست عنصر تزيين، بل رمز للأرض والثبات والحضور الخفيّ. الملامح لا تُرسم بدقة فوتوغرافية، بل بانطباع وجداني يتجوهر حول التعبير لا المحاكاة.
ويمكن توصيف أسلوبه بـ”الواقعي المُصفّى”، أي الواقع بعد أن يُعاد غربلته عبر الحنين والبصيرة. هو لا يرسم ما يراه، بل ما تراه ذاكرته؛ ذاكرة الريف، العائلة، الممرات القديمة، أسطح البيوت، القطارات التي تمرّ ولا تعود، وجوه الناس الذين نحبّهم ولا نلتقيهم كثيرًا.
كثير من أعماله تعجّ بتلك التفاصيل التي تبدو مألوفة، لكنها محمّلة برموز دفينة: نافذة مفتوحة على بياض، قطة تعبر بلا خوف، امرأة تحمل جرة ماء، عربة قطار تتسلل في الأفق. كلها عناصر لا تتكلّم كثيرًا، لكنها تهمس بكل شيء. هناك شيء من الحكمة الصامتة في هذه اللوحات، كأنها تحثّنا على التوقّف، على الإنصات.
معرض قاعة القرمازي: تتويج مسار وتجسيد النضج
لم تبقَ تجربة نور الدين الرياحي حبيسة المحترف أو حدود الذائقة الشخصية، بل وجدت سبيلها إلى الفضاء العام من خلال سلسلة من المعارض الشخصية والجماعية، والتي تكلّلت مؤخرًا بمعرضه الفني الشخصي” إستعادة..نوافذ الأمل ” في قاعة القرمازي للفنون التشكيلية بقلب العاصمة التونسية، وهي قاعة تابعة لوزارة الثقافة وتُعد من أبرز الفضاءات الفنية الرسمية و اقيم هذا المعرض بعد ذلك في دار الثقافة بمدينة مرناق التابعة إداربا لمحافظة بن عروس.
وقد تميّز هذا المعرض بكونه تتويجًا لمسار طويل من العمل الصامت والمثابر، وقدّم فيه الرياحي خلاصة رؤيته، ناضجةً ومتنوّعة، مشبعةً بالتقنيات المتعددة، لكن محافظةً على جوهرها الحميمي والبسيط في آن. استُقبل المعرض بحفاوة من المتابعين والنقّاد، واعتُبر خطوة تكريس لفنان عصامي نجح في فرض أسلوبه دون صخب.
في هذا المعرض، بدت الأعمال وكأنها قصائد بصرية: تزاوج بين الضوء واللون، بين المساحة والتأويل. لا انفلات من الواقع ولا تسطيح له، بل إعادة تأثيثه وفق حسّ جمالي يزاوج بين البصر والبصيرة.
اللون الذي يسكن الذاكرة… لا القماش
ما يجعل تجربة نور الدين الرياحي متميّزة هو أنها تجربة أصيلة، غير محاكية، وغير منقولة. لا تلهث وراء المدارس، ولا تنساق إلى الحداثة المعلّبة. هو فنان ينحت أسلوبه بصبر، ببساطة، وبدون ادّعاء. لذلك، تلامس لوحاته وجدان المتلقّي، وتترك فيه أثرًا حتى دون أن يعي السبب.
هذا الفنّان المتقاعد الظاهري، المقيم اليوم في مدينة طبربة بمحافظة منوبة، يبدو أبعد ما يكون عن فكرة التقاعد. فالإبداع لا يتقاعد، واللون لا يشيخ، ما دامت العين تُبصر، وما دامت الذاكرة مفتوحة على الأمل.
أعماله تُشبهه: هادئة، لكن عميقة. بسيطة، لكن مُثقفة. لا تصرخ، بل تُنصت. لا تستعرض مهارة، بل تُفصح عن رؤية.
رياحيّات فنية: من الخاص إلى الكوني
إذا كان للفن الحقيقي أن يحمل بصمة، فإن “رياحيّات” نور الدين الرياحي قادرة على الانتقال من المحلّي إلى الإنساني. لأنها نابعة من صدق فرديّ، لكنها قادرة على مخاطبة الآخر دون وسائط. هذا هو سرّ الفنّ حين يكون مُعاشًا، لا مهنة فقط، بل قدرًا جماليًا.
إنه يكتب تونس بلغة اللون. لا تونس التلفزيون، ولا تونس الخطب الرسمية، بل تونس التي تسكن الذاكرة الحسية: تونس الأم، وتونس الجارة، وتونس الحنين.
وفي زمن تراجعت فيه العلاقة الصادقة مع الفن، وابتُلي التشكيل بالبهرجة الفارغة أو التكرار المُمل، يأتي هذا الصوت الفني بصورته الهادئة، ليذكّرنا بأن الجمال ما زال ممكنًا، حين يُنجز بالقلب، لا بالموضة
نور الدين الرياحي ليس فقط فنانًا تشكيليًا، بل مؤرّخ بصري لذاكرة تونسية عميقة، ومجدد هادئ في المشهد الفني، يقدّم درسًا ضمنيًا في الوفاء للذات والحنين والجمال الخالص. تجربة تستحق التأمل والاحتفاء… لأنها لا تكتفي بأن تُرى، بل تجعلنا نُبصر و لا يفوتنا هنا ، التذكير بأنً كتابا صدر للرجل تحت عنوان ” نوافذ الأمل ” باقلام نخبة من النقاد و الكتًاب عن مسيرته التشكيلية المميًزة.
– كاتب صحفي مهتمً بقضايا التنمية و المواطنة و النزاعات او الصراعات الإقليمية و الدولية و تجليات المشهد الثقافي التونسي و العربي…