الكيان الصهيوني الغاصب و إيران… المواجهة التي تأخرت لعقود
البشير عبيد / تونس
ليست العلاقة بين الكيان الصهيوني وإيران مسألة مستجدة أو طارئة على الجغرافيا السياسية للمنطقة، بل هي امتداد لصراع خفي، ثم مكشوف، ثم معلن، تأرجحت أطواره بين الحرب بالوكالة، والحرب النفسية، والحرب التكنولوجية، وأخيرًا التلويح بالمواجهة العسكرية المباشرة. لكن، لماذا تأخرت هذه المواجهة عقودًا؟ وهل نحن أمام تحول استراتيجي أم مجرد تصعيد محسوب كالعادة؟
ما من شك في أن المشروعين، الإيراني والصهيوني، يمثلان رؤيتين متعارضتين في بُنية الإقليم، بل وفي فهم الدولة، والمقدس، والعدو. غير أن الوقائع الميدانية تقول إن كل طرف ظل يشتغل ضمن هامش محدد، يتسع حينًا ويضيق حينًا آخر، دون أن يبلغ حافة المواجهة الكاملة. ولعل ما جرى في حرب غزة الأخيرة، وما تخللها من قصف مباشر بين إسرائيل وإيران، شكل نقطة تحوّل فارقة أعادت السؤال المؤجل إلى واجهة الأحداث: هل آن أوان المواجهة الكبرى؟
حرب باردة بطعم النار
على مدى عقود، اتخذت العلاقة بين الطرفين طابع الحرب الباردة، حيث يدير كلّ طرف معاركه في الخفاء أو عبر وكلاء إقليميين. إيران دعمت حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، بينما شن الكيان الصهيوني عشرات الضربات على مواقع إيرانية داخل سوريا ولبنان، دون أن تنزلق الأمور إلى اشتباك مفتوح. كان ميزان الردع هشًّا، لكنه فعّال، وكانت الخطوط الحمراء واضحة رغم كثافة التصريحات.
ومع دخول روسيا وأمريكا على خطّ التوازنات الكبرى، واحتدام ملفات الطاقة والممرات البحرية، صار من الصعب على طهران وتل أبيب المحافظة على منسوب التوتر القديم. فإيران المتوغلة في الجغرافيا العربية عبر أذرعها، والكيان الصهيوني القلق من التطويق، يجدان نفسيهما اليوم أمام إيقاع مختلف، إيقاع يعزفه منطق الاصطفافات النهائية لا الحسابات المؤقتة.
حسابات الربح والخسارة
حين تُستعرض كلفة الحرب الشاملة بين الطرفين، تبدو الخيارات كلها دامية. إسرائيل لا تستطيع تحمّل هجوم إيراني شامل من عدة جبهات: لبنان، سوريا، العراق، وربما غزة. أما إيران، فتعرف أن أي مواجهة مفتوحة مع تل أبيب ستجلب ردًا أمريكيًا قد يهدد وجود نظامها. غير أن استمرار التصعيد، وخصوصًا بعد الضربة الإيرانية المباشرة على إسرائيل في أبريل 2024، يعني أن عتبة الردع التقليدي قد تم تجاوزها.
الرأي العام الإيراني، المُنهك داخليًا بالعقوبات والانقسامات، لم يعد يتفاعل بنفس الحماسة مع خطاب “محور المقاومة”، بينما الرأي العام الإسرائيلي بات يعيش تحت سطوة الهلع من أي حرب شاملة قد تطيح بأسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”. ومع ذلك، فإن مؤسسات القرار في الطرفين تندفع، تحت ضغط العوامل الخارجية، نحو استعراض القوة ولو بثمن باهظ.
المنطقة بين مطرقة الطموح وسندان الفوضى
الشرق الأوسط لا يتحمل الآن حربًا إقليمية كبرى. الأوضاع الاقتصادية، والتصدعات الاجتماعية، وانهيار منظومات الدولة في أكثر من بلد، تجعل أي حرب كبرى مقدمة لانهيار إقليمي أوسع. ومع ذلك، فإن منطق “التحجيم الاستراتيجي” صار مطلبًا ملحًّا لكل من إسرائيل وإيران. فتل أبيب تريد إزاحة “الخطر الإيراني” من حدودها بأي ثمن، وطهران تبحث عن تثبيت أوراقها بعد عقدين من التوسع، حتى لو كان الثمن مواجهة مفتوحة.
ما يُخيف هنا ليس فقط احتمال اندلاع حرب، بل احتمال أن تأتي هذه الحرب نتيجة “سوء تقدير”، أو “ردود فعل” غير مدروسة. فالمشهد الآن مشحون، واللاعبون كثُر، والأخطاء مكلفة. وقد صار من المسلّم به أن أي خطأ في الحسابات قد يشعل شرارة نزاع يتجاوز الحدود الإيرانية والإسرائيلية ليحرق المنطقة بأكملها.
متى تشتعل النار؟
السؤال الذي لا يفارق صُنّاع القرار الإقليميين اليوم: هل نحن على أعتاب المواجهة المنتظرة؟ أم أنها ستبقى ورقة ضغط واستثمار سياسي لكل طرف؟ حتى اللحظة، يبدو أن الخيار الثاني هو الأرجح، رغم أن الأرض مهيّأة للانفجار.
كلّ مؤشرات التصعيد حاضرة: ضربات متبادلة، طائرات مسيرة، اغتيالات، اختراقات سيبرانية، حروب نفسية، وسباق تسلح مستمر. غير أن الحسابات الكبرى لا تزال تفرض التريّث. الكيان الصهيوني لا يستطيع فتح جبهة موازية في ظل التورط الكارثي في غزة، وإيران لا تزال تراهن على استثمار أوراقها عبر التفاوض والتصعيد دون انتحار عسكري.
المنطقة تسير على حبل مشدود، تتقاذفها الحسابات والجنون. وأمام عجز الأنظمة العربية عن فرض معادلة ردع مستقلة، يظل الصراع بين الكيان الغاصب وإيران أحد أوجه الانفجار الكبير الذي تأخر كثيرًا، لكنه بات يقترب من عتبة الحقيقة. مواجهة قد لا تكون شاملة، لكنها حتمًا ستكون مكلفة.
– كاتب صحفي مهتمً بقضايا التنمية و المواطنة و النزاعات و الصراعات الإقليمية و الدولية.