* حديث سطر صبار **
تحت سفح جبل شامخ، حيث السّكون أعمق من ضجيج المدن، يرقد بيت صغير يشبه الكوخ، حجارته مرصوفة بعناية كأن يدا حنونة رتبتها حجرا حجرا، لا لتشيّد جدرانا فقط، بل لتبني حكاية.
يحتضن هذا البيت عائلة لم تكبر على ضوء مصابيح كهربائية، بل على نور القلوب. لم تظهر من جدرانه صنابير متطورة، لكن الماء كان يأتي بحياء من عين جارية قرب الجبل، يُغرف بالرّاحات لا بالأزرار، ويشرب بنكهة البركة، في “برّادة” صنعت من طين… لأن الأفواه من طين كي يقبّل الطينُ الطينَ…
لا شاشات هنا، تسرق نظرات العناق، ولا إشعاعات تُخفي تعابير الوجوه، فقط ضوء القمر في المساء، ونار صغيرة تُدفئ حكايات جدّة، جاءت على ظهر حمارها، من منزلها البعيد لأن الكلّ يعشق وجودها و حلاوة حديثها…
كبر الأبناء بين تلك الحجارة، على تراتيل الأم وصمت الأب المجبول بالكرامة. وحين آن أوان الطيران، خرجوا طيورا من ذاك العش… لا للفرار، بل لحمل ما تربّوا عليه نحو أعشاش جديدة، تفيض بالمحبة وتُشبه الأصل.
ومع أن المسافات ابتعدت، بقيت قدسية العش الأول تُنير طرق العودة، فهناك الأب بمظلته التي صنعها بسعف جريد تلك النخلة الوحيدة حين نشأت مع ذلك البيت… وتلك الأم، بفولارتها التي تعصب رأسها الذي أثقلته ذكريات المكان و الطّرق التي ألفت نعليها… هما لم يفارقا المكان، لا عن عجز، بل عن عهد قطعاه أن لا يغادرا العشّ ما دام القلب ينبض، وما دام البيت ينبض بهما.
هذا البيت لا يريد الرّحيل… هو لم يُخلق ليرحل. إنه ذاكرة الطّين والنقاء، ومرآة الأوفياء.
لكن سنة الحياة لا تكتمل دون ندبة… أحيانا، يخون أحدهم العهد… يبيع الأصل بثمن بخس، ويجحد النعمة التي ربّته، لاهثا خلف مصلحة عابرة. فتغفو عين الأم وجعا، ويصمت الأب دون لوم، كأنّه يعلم أن الطّين لا يخذل، بل من حمله دون وفاء.
ومع ذلك، يبقى البيت، كشاهد على الحبّ، على البساطة، على ما لا يُشترى. حتى سطر ذلك الصبار مازال يقوم بدوره على أكمل وجه، لطالما حماهم من لفح البرد و حر الظهيرة و عواصف كانت لتذهب بسقف البيت لولاه، بل كان سوق الثمار في موسمه، وما زال فيه صبر يكفي لأجيال و أجيال…
من يفقه حديث الصبّار إذا لم يتحدّث.
فتحي بوصيدة