تونس في مواجهة العتمة: معركة الدولة ضد التحالفات الخفية
البشير عبيد / تونس
في لحظة فارقة من تاريخها، تجد تونس نفسها في معركة شاقة مع تراكمات عقود من الفساد السياسي والمالي والبيروقراطي، وسط أزمة اقتصادية خانقة ومناخ إقليمي مأزوم. ليس الصراع اليوم بين سلطة وشعب، كما يحلو للبعض تصويره، بل بين دولة تحاول استعادة عافيتها وبسط سيادتها، وبين منظومة متشابكة من المصالح التي ترى في الإصلاح تهديدًا لمكاسبها. هكذا تُطرح الأسئلة الكبرى: من يعرقل التغيير؟ ومن يراهن على الفشل؟ وكيف يُمكن إنقاذ ما تبقّى من الممكن الوطني؟
تفكيك منظومة الفساد: معركة بلا هوادة
منذ قرارات الخامس والعشرين من يوليو، دخلت الدولة التونسية في مرحلة جديدة من المواجهة، ليست مع أطراف سياسية فقط، بل مع بنية فساد مترسخة كانت تدير دواليب الحكم والاقتصاد في الخفاء. لقد اتضح أن ما كان يُنظر إليه كدولة انتقالية لم يكن في الواقع سوى واجهة هشّة لمنظومة نفوذ اقتصادي وسياسي مترابط، يمتلك من الأدوات ما يجعله قادراً على التخريب والتعطيل متى شعر بخطر يهدد مصالحه.
وقد بدأت محاولات التفكيك الفعلي لمنظومة الفساد برفع الغطاء عن العديد من الشبكات التي تتوزع داخل الإدارة، وتتحكم في دوائر المال والأعمال، وتمتد إلى قطاعات القضاء والإعلام والمجتمع المدني نفسه. هذه الشبكات لم تكن تعمل بشكل معزول، بل بنت تحالفاتها العابرة للمؤسسات، واستطاعت خلال سنوات ما بعد الثورة أن تعيد إنتاج حضورها داخل الدولة، وأن تتكيّف مع مناخ الحريات لتكرّس واقعًا من الفوضى الممنهجة والتغوّل الصامت.
المواجهة التي تخوضها الدولة اليوم لا تشبه صراعًا سياسياً تقليديًا بين سلطة ومعارضة، بل هي مواجهة مع ما يمكن تسميته بـ”الدولة الموازية” التي تأسست على أنقاض الدولة الوطنية، والتي تعتبر أي مسار إصلاحي خطرًا وجوديًا عليها. ولهذا لا غرابة في أن يكون الهجوم على الدولة متعدّد الجبهات: من الداخل عبر العصيان الإداري، ومن الخارج عبر الحملات الدعائية المنظمة التي تصوّر تونس كأنها على شفا الاستبداد والانهيار.
الدولة الوطنية في اختبار الصبر والشرعية
ليس من السهل إعادة بناء الشرعية في مناخ مثقل بالأزمات والشكوك. غير أن ما تقوم به الدولة حاليًا هو محاولة لاستعادة الوظيفة الأساسية للسلطة: أن تكون ضامنة للسيادة، وللتوازن الاجتماعي، وللمصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. وهذا لا يعني إلغاء التعدد أو تحجيم الحريات، بل توجيهها لتكون في خدمة مشروع وطني لا في خدمة فئات تريد تأبيد الامتيازات.
إن الذين ينادون اليوم بعودة “الديمقراطية الشكلية” التي كانت تخفي الاستباحة العامة للدولة، يتجاهلون حقيقة أن الديمقراطية ليست فقط صناديق اقتراع، بل هي أيضًا منظومة مسؤوليات متبادلة بين الحاكم والمحكوم. والمشكل لم يكن في الدولة، بل في من عطّل وظائفها وأفرغها من جوهرها.
ولذلك فإن استعادة الدولة لشرعيتها تمرّ عبر قدرتها على تحمّل الضغط الشعبي، وشرح السياسات التي تتبعها، وعدم الاستهانة بالحراك الاجتماعي، دون أن تسقط في فخّ الابتزاز أو الشعبوية. فالدولة القوية ليست تلك التي ترضي الجميع، بل التي تتحمل مسؤولية الخيارات، وتفسرها بشجاعة، وتلتزم بآجال واضحة لتنفيذها، وتحاسب ذاتها بنفسها قبل أن تُحاسب من الخارج.
الاقتصاد بين دوامة التآكل وضغط الشارع
الاقتصاد هو قلب الأزمة التونسية بامتياز، فهو الحقل الذي تراكمت فيه التناقضات البنيوية على مدى عقود، وتحولت فيه الدولة من فاعل منتج إلى ضامن عاجز، ثم إلى ضحية دائمة لدوائر المضاربة والاحتكار. لا يمكن اليوم بناء أي أفق ديمقراطي أو اجتماعي دون إصلاح اقتصادي عميق، يحرر الدولة من تبعيتها للمؤسسات الدولية، ويمنح المجتمع أدوات الإنتاج والاستقرار.
لكن هذا الإصلاح لا يمكن أن يتحقق في ظل هيمنة الاقتصاد الموازي، الذي يلتهم ما يقارب نصف الدورة الاقتصادية، ويمنع الدولة من بسط سيادتها الجبائية والتنظيمية. كما أن شبكات الاحتكار والتهريب تغلق الأبواب أمام أي سياسة اقتصادية عادلة، وتبقي المواطن تحت رحمة الأسعار والسوق السوداء.
في الوقت ذاته، لا يمكن للطبقات الفقيرة والمتوسطة أن تنتظر طويلاً دون أفق. ولهذا بات من الضروري أن تقدّم الدولة خريطة طريق واضحة في المجال الاقتصادي، تشمل إصلاح الدعم دون التفريط في العدالة الاجتماعية، وتطوير الإنتاج الوطني، وتشجيع الاستثمار الداخلي، وخلق توازن جبائي حقيقي يحدّ من تهرّب الكبار ويعيد توزيع الثروة على أسس عادلة.
أكثر من ذلك، تحتاج الدولة إلى أدوات مالية جديدة، وإلى تصوّر بديل لمنوال التنمية، قائم على الجهات المهمّشة، وعلى اقتصاد اجتماعي تضامني يخلق فرص العمل خارج منطق الربح السريع والاستثمار الاستهلاكي. فالاقتصاد الذي لا يُشرك المجتمع في حلوله، يتحوّل إلى عبء على الناس بدل أن يكون رافعة لمستقبلهم.
المجتمع المدني والإعلام: بين الدعم والنقد المسؤول
ما من دولة قوية بدون مجتمع مدني يقظ وفاعل، لكن هذا المجتمع لا يجب أن يتحول إلى طرف سياسي بديل، ولا إلى منصة لاستهداف الدولة كلما حاولت إصلاح ما أفسدته العقود السابقة. على العكس، فإن المجتمع المدني مدعو إلى أن يكون شريكًا يقظًا، ناقدًا، ولكن ضمن منطق وطني جامع، لا يخضع لأجندات تمويلية أو لخطابات نخب مقطوعة عن نبض الناس.
تونس دفعت ثمنًا باهظًا لانحراف بعض منظمات المجتمع المدني نحو التسييس المفرط، ومحاولة لعب دور “الحَكم الأخلاقي” في كل شيء، دون مساءلة ذاتية أو مسؤولية في الطرح. وهذه التجربة يجب أن تُراجع بعين ناقدة، حتى لا تتكرر.
أما الإعلام، فقد تحوّل في جزء منه إلى ساحة تصفية حسابات، وترويج لخطابات الهلع والانهيار، في حين أن تونس اليوم بحاجة إلى إعلام تنويري، مهني، نقدي ولكن عقلاني، يضع الواقع في سياقه، ويستمع للشارع دون الوقوع في فخّ الإثارة أو التوظيف السياسي.
الإعلام ليس عدوًا للدولة، لكنه أيضًا ليس محايدًا حين يتورط في تحريف المعطيات، أو في ترويج الأصوات التي تراهن على الفشل. الإعلام الحقيقي هو من يُضيء الطريق لا من يصفق للتيه، وهو من يُسائل الدولة لا من يجلدها، وهو من يُعبّر عن الناس لا من يُناور بأوجاعهم.
– كاتب صحفي مهتمً بقضايا التنمية و المواطنة و النزاعات و الصراعات الإقليمية و الدولية و تجليات المشهد الثقافي العربي.