حين يكتب القلب من مسافة نزف
قراءة عاشقة في قصيدة “تذكريني” للشاعر مصطفى بوغازي
بقلم الأستاذ والشاعر مراد اللحياني
داخل القراءة العاشقة، نقف خاشعين أمام هذا النص، لا لنحلله بعقلٍ نقديٍ بارد، بل لننصت لنبضه، لصداه وهو يتموّج في القلب كما يتموّج النداء في كهف من الفقد، وكأن القصيدة كلّها صلاة تتهجّى اسمًا غائبًا: “تذكريني”.
هذا المطلع وحده، بندائه المجروح، لا يفتح باب الذكرى، بل يطرقه بكفّ ترتعش من البرد والعزلة. “كل أزمنتي تلاشت في صمت”، ليست مجرّد جملة، بل موت زمنيّ كامل، حيث لا ماضٍ يُحتضن ولا حاضر يُعوّل عليه، سوى ذلك الصمت الكثيف الذي يلف الذاكرة ككفنٍ أبيض. “نامت على كتف بارد” — يا لروعة الصورة! فالكتف، الذي يُفترض أن يكون مرفأ، صار هنا كتفًا باردًا، لا عاطفة فيه، لا حنوّ، بل منفى صغير لجسدٍ أرهقه الانتظار.
“تذكريني / على دفترك الصغير / على وسادتك” — هنا، لا يطلب الشاعر أن يُحفظ في قلبها، بل يكفيه أن يسكن تفاصيلها الصغيرة، أن يُلتقط كحرف على هامش صفحة، أو كأثر أنفاسٍ على وسادة الليل. إنّه يتماهى مع هشاشة الذاكرة، ويقبل بها ملاذًا، حتى وإن كان مؤقتًا، حتى وإن جاء عرضًا.
ثم تنفتح القصيدة على صور طبيعية مفعمة بالرمز الحيّ:
“كلما تراقص غصن الزيتون / وهمس ماء الغدير” — ما أجمل هذه الاستعارة حين نقرأها بعين عاشقة! الزيتون، بسلامه وأرضيّته، والغدير، بمائه الهامس، كلاهما يتآمران مع الذاكرة كي تُعيد تشكيل وجه الحبيبة، وكأن الطبيعة ذاتها ترفض نسيانها.
وحين يقول:
“كنت ربيعًا لكل الفصول / ورجال مدينتي / قلوبهم مشرعة، يقهرها الذهول”
فإنّه لا يجامِل، بل يخلع على الحبيبة صفة كونية، هي وحدها المعنى في زمنٍ فقد معانيه، هي وحدها الاستثناء في مدينةٍ من الذهول، حيث حتى الرجال “قلوبهم مشرعة، يقهرها الذهول” — أي سطوةٍ لها، تلك التي تفتح قلوب الرجال وتتركهم مصعوقين بحضورها؟
لكن الذروة الشعورية، بيت القصيد، تكمن في هذه الخاتمة:
“كنت قريبة بما يكفي / في بريق العين .. في خطوط الكف / كنت بعيدة أيضًا / وكانت المسافة بين القلب والعين / بعض من هذا النزف.”
كم هو موجع هذا التناقض المحبوك بشفافية! القرب الذي لا يُطال، البعد الذي لا يُحتمل، والنزف الذي يتسرّب من المسافة بين البصر والبصيرة، بين الإدراك والشعور، بين العين التي تراها والقلب الذي لا يصلها.
إنها ليست قصيدة عن الذكرى فقط، بل عن المسافة بين التذكّر والحضور، بين الحنين والعدم. كل سطر فيها يُكتب بالوجدان لا بالقلم، وكل صورة تنفتح كنافذة تُطلّ منها الروح على ما كان… وما لن يكون.
هكذا تُقرأ “تذكريني” بعين العاشق:
لا كقصيدة، بل كـ نُدبة موسيقية على جسد الذكرى
النص/
.تذكريني
تذكريني
فكل ازمنتي تلاشت في صمت
نامت على كتف بارد
ولفها النسيان.
تذكريني
على دفترك الصغير
على وسادتك ….
كلما تراقص غصن الزيتون
و همس ماء الغدير
ماعاد التيه يأخذني
وأنت ترخين ستائر الليل
على قارعة الطريق..
في تلك القلعة العنيدة
وذاك البيت العتيق.
كنت ربيعا لكل الفصول
ورجال مدينتي
قلوبهم مشرعة ، يقهرها الذهول
كنت قريبة بما يكفي
في بريق العين ..في خطوط الكف
كنت بعيدة أيضا
و كانت المسافة بين القلب والعين
بعض من هذا النزف.
مصطفى بوغازي