قراءة نقدية سجالية القصيدة الارسالية بين عشقين

قراءة نقدية سجالية:
“القصيدة الارسالية بين عشقين”
الجنس الأدبي: إرساليات قصيرة جدا..
العنوان : “وما أعذب الكلام على الكلام”
الإرسالية عدد (9).
الشاعر:عمر دغرير (تونس)
القصيدة :” يا أنتِ”
الشاعرة :آمال بوحرب (تونس)
القصيدة: ” في بساتين الهوى”
الناقدة:جليلة المازني (تونس).
المقدمة:
إن الارساليات القصيرة جدا لهذا اليوم 01/ 07/ 2025 تتعلق بسجال بين الشاعر عمر دغرير بقصيدته الارسالية القصيرة جدا “يا أنتِ” والشاعرة آمال بوحرب بقصيدتها الارسالية “في بساتين الهوى”.
أين تكمن عذوبة ” ما أعذب الكلام على الكلام” بالارساليتين (9)؟
القراءة النقدية السجالية : “الإرسالية بين عشقين”
أ- المشترك بين الارساليتين (9)
– القصيدة بين الازدهار والانحطاط
– التناص المعجمي
– العشق
ب- المختلف بين الإرساليتين(9):
1- الشاعر عمر دغرير وعشق القصيدة
أ- العنوان “يا أنتِ”:
لقد اختار الشاعر عمر دغرير عنوان إرساليته(9) “يا أنتِ” وقد ورد تركيبا ندائيا (أداة نداء ومناداة) .فكانت أداة النداء للقريب(يا) والمناداة هي المخاطبة (أنتِ) .
فمن تكون هذه المخاطبة؟
ب- التحليل:
يستهل الشاعر قصيدته الإرسالية بأسلوب انزياحي تركيبي قائم على استفهام استنكاري يستنكر فيه فرار هذه المخاطَبة منه فيقول:
يا أنتِ..
لماذا أراك
تفرّين منّي..
وفرار هذه المخاطبة اقترن بفرار الجوى وشدة العشق والهيام منه فيقول:
“ومني الجوى والهيام يفرّ”:
وفي هذا الاطار يكشف الشاعر عن هذه المخاطبة وهي القصيدة فيقول:
وغصبا تفرّ الحروف من شفتي
وأنت لها المستقرّ..
ان الشاعريرى أن الحروف قد فرّت من شفتيه كرهًا دون رغبة منه .
انه نوع من الفقد الابداعي الذي أثّرعليه لسبب من الأسباب.
وكأني به بهذا الفقد الإبداعي يرثي القصيدة وهي جنته المفقودة.
بيْد أن الشاعر يتحدى الزمان والزمان كناية عن الناس الذين يزعجون إبداعه ويعتبرونه من الممنوعات أو من الابداع المحظور..
انه العشق الممنوع للقصيدة التي هي بساتين هواه حيث يزهر إبداعه فيقول:
أنا لا أخاف الزمان
وعشقي لك من الممنوعات يجيء
اليك ومنك يمرّ…
لماذا ترانا نفرّ؟…
ان الشاعر باستخدام ضميرالمتكلم الجمع (ترانا) يستنكر فراره وفرارالقصيدة.
ان الشاعر باستخدام التكرار لفعل فرّ(تفرّين/ يفرّ/ تفرّ/ نفرّ) يؤكد على فعل الفرار.
ولعل هذا الفرار يعبربه عن الغربة. انها غربة المبدع:
و”غربة المبدع ” كما يرى بعض النقاد” تشير الى شعور العزلة أو عدم الانتماء الذي قد يعيشه المبدعون في بيئاتهم,سواء كانت هذه البيئة وطنية او اجتماعية, قد يشعر المبدعون بأنهم يختلفون عن الآخرين بسبب أفكارهم أو مواهبهم الفريدة ممّا يجعلهم يشعرون بعدم التقدير أو التهميش”
انها الغربة النفسية التي قد يشعر بها المبدعون حتى وهم بأوطانهم وهي أشد أنواع الغربة مما يجعلهم يجدون صعوبة في التعبير عن ابداعاتهم ويواجهون تهميشا واقصاء من طرف المجتمع أو المؤسسات مما يعيق تطوّر إبداعهم.
ولعل هذا ما جعل شاعرنا عمر دغرير يحلم ببستان الهوى ليكون بيئة حاضنة لابداعه وقد يكون هذا الوطن الذي يعوضه الغربة الابداعية وطنا غير مادّي بل هو مكان افتراضي او مجتمع افتراضي يتشارك فيه مع غيره أفكاره .
ولعل هذا ما يشرّع هذه الإرسالية القصيرة جدا.
وقد تحدث الباحث د. شمسان بن عبد الله المناعي حول غربة المبدعين في أوطانهم بتاريخ 13/ 04/ 2021 قائلا:
” أن تكون غريبا في بلد ما أهون عليك من أن تكون غريبا في وطنك والغربة التي أعنيها هنا هي عندما تكون غريبا بأفكارك ومواهبك وهمومك ..تلك هي الغربة الحقيقية التي نجدها عند الأفراد الموهوبين والمبدعين”.
وفي هذا الاطارنرى الشاعر باستخدام تقنية ضرب المثل يعبّر عن تفاؤله
ببساتين الهوى لتستمرّ القصيدة ويعيش الابداع.
انه يضرب مثل النحل والفراشات ليشبه نفسه والقصيدة بهما في معانقة العطر والزهر في كل روض فيقول:
كما النحل والفراشات نعانق العطر
نعانق الزهر في كل روض..
ندثر بعبير الكلام
هوانا به يستمرّ..
انها قفلة مدهشة لم يكن القارئ ليتوقعها ,انها كسرت أفق انتظاره وانتهكت حرمة منطق سردية الارسالية فحولت الغربة النفسية الابداعية الى حياة مزهرة تستعيد بها القصيدة مع المبدع الأنفاس النابضة ليستمر العشق بينهما.
وفي هذا الاطار هل سيتناغم السجال بين الشاعر عمر دغرير والشاعرة آمال بوحرب؟
2- الشاعرة آمال بوحرب وعشق الله.
أ – العنوان:” في بساتين الهوى”
أسندت الشاعرة عنوانا لقصيدتها” في بساتين الهوى” وهو عنوان له دلالته المكانية حيث اختاره الشاعر عمر دغرير ليكون ملجأه وملاذه فرارا من الغربة النفسية الابداعية ويخرج من اختناق الغربة والتشاؤم الى متنفس التفاؤل بالحياة.
ب- التحليل:
استهلت الشاعرة آمال بوحرب ارساليتها القصيرة جدا حيث أنهى الشاعر عمر دغرير ارساليته لتقيم مجلس أنس في “بساتين الهوى” حيث استدعت شخصية الخليفة المأمون وشخصية الشاعر أبي نواس والمغنية. فتقول:
في بساتين الهوى
جلس المأمون ذات ليل
وألقى أبو نواس قصيدة لم تكتب بالحبر
ورفت يد جارية على عود من نغمة القلب
إنه مجلس أنس من الخمر والطرب.
وفي هذا الاطار قد يتدخل القارئ متسائلا:
– لماذا جمعت الشاعرة بمجلس المأمون بين المأمون وأبي نواس؟
رغم ان بعض النقاد قد رأى أن” مجالس المأمون تجمع بين الأدب والفكر حيث كان يحضرها العلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة ويتبادلون الآراء و الأفكار في مختلف المجالات”
بيْد ان بين الخليفة المأمون وأبي نواس قد حصل خصام بينهما بسبب انحطاط البلاغة في قصيدة ألقاها الخليفة بحضور أبي نواس الذي لم تعجبه القصيدة وقد سجنه الخليفة بسبب رأيه بحظيرة الحمير.
وفي هذا السياق قد جعلت الشاعرة أبا نواس يلقي قصيدة بلا حبر ولعل الشاعرة جعلت الشاعر أبا نواس يُعرض عن القصيدة البلاغية ليستبدلها بالخمر وهو شاعر الخمر (يلقي قصيدة لم تكتب بالحبر).
وبالتالي قد تشي الشاعرة بذلك الى عصر انحطاط القصيدة :
– فلا الخليفة المأمون قد ألقى قصيدة بليغة.
– ولا أبو نواس ألقى قصيدة بالحبر.
و أكثر من ذلك فالشاعرة زاهدة في الهوى حين عرفته على لسان أحدهم بأنه سهو وترف وجنون مبعثر فتقول:
وقال أحدهم:
الهوى سهو,ترف وجنون مبعثر
يغفو القلب
حين يظن أنه يحنو
ثم يضعف
وبالتالي فلا الخمر ولا الهوى المزيف ولاالقصيدة ما يثير اهتمام الشاعرة حين رأته الشاعرة الشاعر عمر دغرير يتصدر المجلس دون اهتمام بالكتاب ولا بالجارية فتقول:
في بساتين الهوى
راأيتك جالسا في صدر المجلس
لا تقرأ كتابا
ولا تنظر الى الجارية
ان الشاعر عمر دغرير كما رأته الشاعرة آمال بوحرب كان زاهدا في القصيدة زمن انحطاطها على أيدي الساسة وكان أيضا في المرأة من الزاهدين.
ومن ناحية أخرى فان الشاعرة قد أقحمت الشاعر أبي نواس بمجلس المأمون لتقنع القارئ بأن هكذا مجالس لا تخدم الأدب ولا الدين حين جمعت بين المأمون الذي لا يشجع على الابداع الأدبي وأبي نواس الماجن والزاهد في الدين وهو القائل:
دع المساجد للعُبّاد تسكنها// وطُفْ بنا حول خمّار ليسقينا
ما قال ربّك ويْل للذين سكروا// ولكن قال ويْل للمصلينا
ان الشاعرة باستدعاء هذه الصورة الشعرية لمجلس المأمون تشي بحنينها الى مجالس أدبية لا باعتبارها مجالس خمر ومجون بل باعتبارها مجالس يزدهر فيها الادب والثقافة والدين.
وتختم الشاعرة آمال بوحرب إرساليتها بقفلة مدهشة كسرت أفق انتظار القارئ تحوّل فيها وجهة الشاعر عمر دغرير من القصيدة المبتذلة والمرأة المغنية الى عشق الله بالإنصات الى قول الفقهاء في تقلب النساء ليزهد فيها فتقول:
تحدق في جهة لا يعرفها سواك
تُنْصِت لما قاله الفقهاء عن تقلب النساء فتضحك
آه كم أرهقك العشق حدّ الثمالة..
حدّ الانتشاء
ان الشاعرة جعلته يزهد في القصيدة المبتذلة (الخليفة) ويعرض عن القصيدة الماجنة الكافرة لأبي نواس ويرفض الاستجابة للمغنية بهكذا مجالس أنس
انها جعلته يلتفت الى العبادة وعشق الله ولعلها تدعوه الى الحب الصوفي حيث النشوة والانتشاء.
وخلاصة القول لئن عاش الشاعر عمر دغرير في بداية إرساليته غربة المبدع فانه ختم ارساليته بتحويل هذه الغربة الابداعية الى بساتين الهوى حيث تزهر القصيدة.
فان الشاعرة آمال بوحرب قد تشاءمت بمجالس الأدب التي شهدت انحطاط القصيدة وحولت وجهة الشاعر عمر دغرير من عشق القصيدة الى عشق صوفي لله..ولعل عشق الله يتقاطع مع عشق القصيدة حين تكون فاعلة فيه.
سلم القلمان العاشقان :عشق القصيدة وعشق الله.
بتاريخ 02/ 07 2025
)9)إرساليات قصيرة جدا ..وما أعذب الكلام على الكلام …
***الشاعر عمر دغرير :
يا أنتِ ..
لماذا أراك
تفرين مني …
ومني الجوى والهيام يفرّ …
وغصبا تفرّ الحروف من شفتيّ
وأنتِ لها المستقر ّ…
أنا لا أخاف الزمان
وعشقي لكِ من الممنوعات يجيء ..
اليكِ ومنكِ يمرّ …
وفي بساتين الهوى يستقرّ …
لماذا ترانا نفر ّ؟…
ونحن
كما النحل والفراشات نعانق العطر…
نعانق الزهر في كل روض …
ندّثر بعبيرالكلام
هوانا به يستمرّ …
***الشاعرة أمال بوحرب :
في بساتين الهوى،
جلسَ المأمونُ ذات ليلٍ،
وألقى أبو نواس قصيدةً لم تُكتب بالحبر
ورفّت يدُ جاريةٍ على عودٍ من نغمة القلب،
وقال أحدهم:
الهوى سهوُ ترف وجنون مبعثر
يغفو القلب
حين يظن أنه يحنو
ثم يضعف
في بساتين الهوى،
رأيتُك جالسًا في صدر المجلس،
لا تقرأ كتابًا،
ولا تنظر إلى الجارية
تُحدّق في جهةٍ لا يعرفها سواك،
تُنصت لما قاله الفقهاء عن تقلب النساء فتضحكُ،
آه كم أرهقك العشق حد الثمالة ..
حد الانتشاء..