قراءة نقدية:” القصيدة بين لذّة النص وموت المؤلف”
رولان بارت ).Roland Bartes
Your Content Goes Here
(
القصيدة ” لن يكسر الزمان المهاب عزيمتي”
الشاعرة زينب التميمي (العراق)
الشاعرة المتفاعلة: أميمة عمران(سوريا)
الرسامة التشكيلية :سعيدة بركاتي (تونس)
الناقدة جليلة المازني (تونس)
المقدمة: تندرج القصيدة ضمن غرض الفخر وضمن أدب النساء.
– أي فخر تلوذ به الشاعرة؟
– فيما تخوض الشاعرة في أدب النساء؟
القراءة النقدية: :” القصيدة بين لذّة النص وموت المؤلف”
(رولان بارت)
استهلت الشاعرة زينب التميمي قصيدتها بجملة فعلية منفية بلن الزمخشرية التي تنفي الفعل حاضرا ومستقبلا فتقول:
لن يكسر الزمان المهاب عزيمتي
انها تنفي كسر الزمان المهاب لعزيمتها .
والشاعرة وصَمتْ الزمن بالمهاب و”الزمن المهاب ” في اللغة العربية يعني “الزمن الرهيب ” أو “الزمن المخيف”.
يشير هذا التعبير حسب الدارسين الى فترة زمنية تعتبر صعبة أو قاسية غالبا ما تكون مصحوبة بالخوف أو القلق. يمكن أيضا أن يشير الى فترة زمنية تتسم بالاضطراب أو التغيير الجذري.
ويمكن استخدام “الزمن المهاب” للتعبير عن فترة الحروب والكوارث أو عن فترة التحولات السياسية أو فترة الشدة والمحن..
ولعل الشاعرة استخدمت عبارة “الزمن المهاب” للتعبير عن فترة تحولات سياسية ببلدها العراق حيث الأوضاع غير مستقرة و الناس قلقون بشأن المستقبل.
وقد تكون للتعبير عن فترة الحروب والكوارث لما يجدّ بالوطن العربي
والشاعرة استخدمت ضمير المتكلم المفرد (أنا) لتعبّر عن فرد ضمن مجموعة. انه المفرد في صيغة الجمع(نحن) .
انها تعبر عن شعب لن تكسر عزيمته في هذا الزمن المهاب, او عن أمة عربية
ذات عزيمة حديدية.
والعزيمة هي “القوة العقلية والإرادة الصلبة التي تمكن الفرد من الاستمرار في مجهوده والعمل بجدية وإصرار لتحقيق الاهداف ذات المدى الطويل والانتصار على التحديات والصعوبات المحيطة به”(1)
وهذا المفهوم للعزيمة التي لن يكسرها الزمن المهاب تتناص مع قول الشابي وهو يشحذ عزيمة شعبه للنضال ضد الاستعمار:
اذا الشعب يوما أراد الحياة// فلا بد أن يستجيب القدر.
وفي هذا الاطار نرى أن الشاعرة تستخدم تقنية المعادلة التي تقتضي تساوي عبارتين:
ان الشاعرة ساوت بين العزيمة التي لا تكسر وبين الكرامة:
الكرامة = عزيمة قوية.
عزيمة قوية = كرامة.
وكأني بالشاعرة تشي بمعادلة مضادة للأولى:
من لا عزيمة له = لا كرامة له.
والشاعرة اختارت المعادلة الاولى وهي في ذلك تتقاطع مع شهيد النضال النقابي التونسي فرحات حشاد الذي يقول:
“لا يستحق الحياة من لا كرامة له”
انها تجربة ما بعد الحداثة حيث الذات لا تنكسر بل تعيد تعريف اللغة والحياة
انها الذات التي حين تخذل لا تنكسر بل تنهض من رمادها.
ولعل الشاعرة تلمّح الى الخونة الذين يبيعون كرامتهم من أجل مصالح ضيقة
كأني بالشاعرة حاسمة لأمرها في تحدّي الزمن المهاب بل هي لن تتصالح معه وهي في ذلك تتقاطع مع الشاعر المصري الراحل أمل دنقل في قصيدته “لا تصالح” حين يقول (2):
لا تصالح..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين
مكانهما…هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك
حسّكما فجأة بالرجولة.
وتستأنف الشاعرة بشيء من التفصيل لتصف من ينتمي الى الزمن المهاب بالحقير وكأني بها تدعو عليه بالانطفاء والاخماد وفقدان بهرجه اذا أراد مذلتها.
وهي في ذلك تعود الى قانون المعادلة:
ارادة المذلة= انطفاء الحقير واخماده
تقول الشاعرة:
يخبو الحقير اذا أراد مذلتي
ما دامت النفس إلى العلا تتطلّع
ان الشاعرة من جيل يسكنه التمرّد النبيل من أجل تكريس هوية انسانية تؤسس لحياة كريمة , تنبذ الذل والخنوع والتواطؤ, وترفض التصالح مع المطبع مع العدو والدوْس على مصالح الشعوب المضطهدة.
بالعزيمة تحوّل الخيبة الى نجاح ايمانا منها بأولوية الكرامة.
وكأن الشاعرة تتحدث عن الانسان في المطلق وتنظر له كيف يكون وكيف لا يكون فهي تطرح المعادلة وتخفي المعادلة المقابلة وتضمر المسكوت عنه.
والشاعرة في ذلك تعكس الوجه الجديد للشعر النسائي العربي حيث لا تموت القصيدة في الحبر بل تولد في هذا النضج الفكري والوعي السياسي الاجتماعي
– قد يتحوّل الزمن المهاب في الشعر الى زمن ابداعي عندما تتجاوز الزمن المادي الى الزمن الابداعي ويرتبط بالرؤية الوجودية.
ثم تشيد بالإباء عند الشريف ورفض عيش غير لائق لأن طبع الشريف الكرم والعطاء فتقول:
يأبى الشريف العيش بنقصة أبدا
وطهر الحليب من فيه يوزّع
ان الشاعرة بحديثها عن العزيمة والكرامة والتطلع الى العلا والشرف والعطاء فخرا بخصال الأمة العربية. كلها معاني تجعل القارئ ينخرط معها ويتبنّى هذه المعاني النبيلة .
انها تحرّك غيرة القار ئ العربي الذي يريد أن تكون له عزيمة وأن يعيش بكرامة وشرف ويتطلع الى العلا..
وكأني بالشاعرة هنا تلقي هذه المعاني الانسانية الراقية بين تفكير وتأمل
القارئ لتجعله يستمتع بلذة النص ليتفاعل معه ويتبنى معانيه الانسانية السامية المطروحة وفي الآن نفسه تنسحب لترى تفاعلاته.
ولعل اللوحة التشكيلية المصاحبة تعبر عن انسحابها المؤقت وعن المسكوت عنه في القصيدة :
*تأملات في اللوحة المصاحبة بقلم الفنانة التشكيلية التونسية سعيدة بركاتي:
حين تنظر إلى اللوحة سيجلب انتباهك وجود هذا الوجه : وجه عابس لإمرأة تتوسط اللوحة.
لوحة تجمعت فيها كل الالوان تقريبا أولية و ثانوية ، حارة و باردة ،
وأخذ ملك الألوان الأسود أكبر مساحة على محملها.
قد يحاول المتلقي اتباع الألوان وإلى أين تنتهي سيجد نفسه في متاهة ولا يعرف له نهاية الا عند حدود الاطار
في انطلاقنا من أسفل اللوحة فنحن في بحر ظلمات ” اللون الأسود ” و في نفس الوقت هو الجزء السفلي من المرأة ، على الجانب الأيسر و الأيمن منها أمواج
تتلاطم بكل عنف وتنكسر عندها.
أمواج تنتهي عندها و كأنها في حالة صلاة أو توسل .
سمكتان اختلف لونهما ، في اتجاه المرأة و السمك في الفن يرمز إلى الخصوبة .. ما يحيط بالمرأة من ألوان متداخلة يجعل المشاهد في صراع لاتباع ما يشبه الحبال او الخيوط حول الشخصية الرئيسة في اللوحة ، تتعمق حيرته حول ما يحيط برقبتها ، ما يشبه الشال الأزرق ليمتد و تضيع نهايته في غمرة الألوان .
والسر في هذه اليد التي تمتد من ظلمة الألوان لتقترب ، ربما يد تحاول تخليص هذه المرأة من ظلمة تعيشها ، أو هي من تحرّك عناصر اللوحة : الريح الظاهرة في حركة الأمواج ، الشمس التي أضاءت الجانب الأيمن من اللوحة ، و عناصر من الطبيعة ، الشق الوردي منها الجانب الأيسر
فاللوحة تعيش بألوانها صراع ” تضاد ” : نرى الخير و الشر ، نرى النور و العتمة والحزن والفرح…
من زاوية أخرى تقرأ اللوحة من جانب روحاني و كأننا مع آلهة اغريقية ، الملامح ، اللباس ، ما وضع على الرأس ، آلهة للخصوبة و الرخاء بوجود السمك حولها و
كل عناصر الطبيعة : النار ,الماء, الارض, الهواء ,والألوان خير دليل.
لكن بالرجوع والتركيز عن المرأة وهو أهم عنصر باللوحة رمز عطاء لا متناهي وهي الوطن والملجأ لمن يبحث عن السكينة.
وعناصر اللوحة تحيط بهذه المرأة وكأنها تطلب نجدتها فتداخلت الألوان وتبحث عمن يخلصها.
لقد لعبت ريشة الفنان كما شاءت على المحمل وهي ذاتها تبحث عن نهاية للوحة ولم توفق بعد.. من يرسم بخطوط عريضة فهو يبحث عن مرساة لفرشاته…
وخلاصة القول:
لقد منحت هذه المرأة الكثير لكل عناصر الطبيعة وقد أنهكها التعب والجهد واضح على مُحيّاها لكن كل من حولها طامع في عطائها.
قريبة هي من الغرق..لكن الرسام أبدع في رسمها كقرص شمس يضيء كل اللوحة وقد أبرز صدرها وهو المصدر الأول للاطعام ,كساها من طحالب البحر فكانت فعلا كآلهة خصوبة ورخاء.
تبقى الاضاءة الفنية للوحة بارزة جدا لا تحمل في ثناياها ظلالا ولا عتمة.
بين اللون الازرق واللون الاسود لعبت الريشة لعبة الظل المسطح ,ألوان كانت وسط اللوحة عكس الألوان الجانبية الأكثر اشراقا.
كان في اللوحة أمل الالوان الزاهية رغم كآبة العنصر الرئيس.
هذا ما أخبرتني به اللوحة التي أجهل اسمها.
بقلمي سعيدة بركاتي/ تونس.
*التعقيب على قراءة الفنانة التشكيلية سعيدة بركاتي للوحة:
لقد أبدعت الفنانة التشكيلية في قراءة اللوحة المصاحبة للقصيدة .
ولئن سلمنا بان هذه المرأة هي رمز الوطن او الأمة العربية فهي لن تخاف الزمن المهاب بعزيمتها حفظا لكرامتها ولشرفها ومداومة على عطائها.
ولئن اعتبرت قارئة اللوحة أن اليد التي تمتد اليها قد تنتشلها وقد تغرقها فالشاعرة قد ألقت بين يدي المتلقي معاني نبيلة كفيلة بان تحافظ على خصوبة هذه الامة وعلى عطائها ودوام رخائها والشاعرة تتقاطع في ذلك مع قارئة اللوحة.
ولعل الشاعرة زينب التميمي هنا تجعلني أقارب قصيدتها وفق مقاربة لرولان بارت والتي تجمع بين لذة النص وموت المؤلف (3):
وثنائية “لذة النص وموت المؤلف” تستجيب لنظرية التلقي الحديثة.
+ لذة النص هي قراءة شعرية تتجاوز المعنى المتفق عليه وتتجاوز القراءة الشرحية . ولكل نص مكتوب عند بارت مظهران: مظهر سيميائي ومظهر معنوي.
وفي هذا الاطار فان القارئ يتجاوز القراءة الشرحية المرتبطة بظروف انتاج النص ليتبنى تلك المعاني بالنص ويعيش لذة النص.
يقول بارت في كتابه “لذة النص: ” إن النص بداية مفتوحة تكتب وتقرأ ربما هنا تكمن اللذة”.
+ موت المؤلف : بالعودة الى كتاب بارت الشهير “موت المؤلف” يشرح الناقد عبد الله الغذامي في كتابه ” نقد وحقيقة” قائلا:
” إن مقولة موت المؤلف لا تعني إلغاء المؤلف نهائيا بقدر ما هي عملية تحرير النص من سلطة المؤلف وخضوعه للقارئ أي عملية عقد قران بين النص والقارئ”.
وفي هذا الاطار لعل الشاعرة وبذكاء تخضع النص للقارئ ليتبنى معانيه بالتفاعل معها ولعل القارئة الشاعرة أميمة عمران قد عاشت لذة النص و تفاعلت معه لتردّ عليها بقولها:
لقد تربعت الكرامة في مسام روحك ونبعت
إباءات ووزعتها على رجال هزُلتْ لديهم واستفزّهم الندم
ليتجنحوا عمالق شهامات لقّنتْهم فروسيتك كيف
تكون الحلبات.
ان الشاعرة أميمة عمران أدركت المعاني الانسانية السامية التي طرحتها الشاعرة زينب التميمي من عزيمة وكرامة وشرف وعطاء …وأسندتها لها لا في شخصها بل ارتقت بها الى أدب النساء في مقارنه مع الرجال الذين لم يرتقوا الى الشاعرة زينب التميمي حين جعلتها مثالا في الفروسية التي قد تلقنها للرجال.
وكأني بالشاعرة زينب التميمي قد ألقت بهذه المعاني الانسانية وبقيت تنتظر تفاعل القارئ .
وكل قارئ يرى نفسه صاحب عزيمة وله كرامته وشريفا فكانت الشاعرة المتلقية أميمة عمران وهي تشعر بلذة النص من خلال هذه المعاني النبيلة التي تشعرها بالنخوة وتنتشي بها لتقوم مقام الشاعرة زينب التميمي وتردّ على الرجال بما يرتقي بالنساء في المطلق.
وكأني بالشاعرة أميمة عمران تردّد قول المتنبي في مدح أم سيف الدولة:
لو كان النساء كمن ذكرن// لفضلت النساء على الرجال
وبالتالي فان تعاطف الشاعرة أميمة عمران مع الشاعرة زينب التميمي هو في الحقيقة تعاطف مع تلك المعاني النبيلة التي حرّكت فيها لذة النص.
ولعل انسحاب زينب التميمي لتمنحها ورقة عقد قران بينها وبين النص لتثير المسكوت عنه بالنص وهو بمثابة المولود الجديد به والمتمثل في تفضيل النساء على الرجال حين جعلتها تلقنهم درسا في الفروسية علما وان العرب قد شهروا قبل غيرهم بالفروسية . وبالتالي تفضيل الامة العربية على الغرب وهو فخر بها.
وبالربط مع قراءة اللوحة فان هذه المرأة التي ترمز الى الأمة العربية لن تخنقها تلك اليد الممتدة اليها والتي قد ترمز الى الغرب عدوّها.
الخاتمة:
ان الشاعرة زينب التميمي بهذا التفاؤل انتشاء وشعورا منها بنخوة الامة العربية قد أمتعتنا بقصيدة فخرية محكومة بثنائية “لذة النص وموت المؤلف” التي تستجيب لنظرية التلقي الحديثة.
وهي ثنائية كان فيها للفيلسوف الفرنسي رولان بارت فضل الريادة.
فكانت لذة النص في ذاك التحدي حفاظا للكرامة العربية وقد” تماوتت” الشاعرة لافساح المجال لتلك اللوحة المصاحبة ولتفاعل الشاعرة أميمة عمران.
سلم قلم الشاعرة زينب التميمي المتفرّد الذي ترك الفسحة للفنانة التشكيلية سعيدة بركاتي لقراءة اللوحة المصاحبة و للشاعرة أميمة عمران وحرك قلمها كقارئة للتفاعل مع القصيدة شعورا منها بلذة النص.
بتاريخ 22/ 07/ 2025
المراجع:
(1) د.عبد الفتاح الخواجه : العزيمة النفسية ..مفاهيم وتوجيهات (قسم التربية
والدراسات الانسانية/ كلية العلوم والاداب)01/ 11/ 2023
(2) الديوان..لا تصالح – أمل دنقل .
(3) الناقد اسماعيل كرك – رولان بارت.. بين لذة النص وموت المؤلف. (28/03/2023 ).
القصيدة:
لن يكسرَ الزمانُ المهابُ عزيمتي
مادام في الروحِ الكرامةُ ترتعُ
يخبو الحقيرُ إذا أراد مذلتي
مادامت النفسُ الى العلا تتطلعُ
يأبى الشريفُ العيشَ بنُقْصَةٍ أبداً
وطهرُ الحليبِ من فيهِ يُوزَّعُ
زينب التميمي
البصرة/ ١٩ تموز






