تاريخ قرطاج : حقائق ترعب أعداءها
قراءة في الكتاب الجديد “قرطاج: تاريخ جديد لإمبراطورية قديمة” لإيف ماكدونالد
رانيا الحمامي
لأن الحرب تمحي كل الأثار وتقتل كل المدافعين على الحقيقة ، ظلت الصورة الرائجة عن قرطاج، الإمبراطورية العظيمة التي حكمت أجزاء واسعة من شمال إفريقيا وجنوب إسبانيا وسردينيا وصقلية بين 814 و146 قبل الميلاد، ولم تسبقها الى المدنية والديمقراطية حضارة، ملوثة بدعايات خصومها القدماء، خاصة الرومان. فقد تعمدوا طمس تاريخها الحقيقي واستبداله بصورة مضللة: حضارة تغلب فيها الهمجية والفساد. ولعل ما زاد الأمر سوءا بعض الكتابات الأدبية الحديثة مثل رواية “سلامبو” للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير ( صدرت سنة 1862) الذي بالغ في تقديم قرطاج بصورة يهيمن عليها الفجور والانحلال.
لكن الحقائق وان طال دفنها، تنفض عنها التراب، لتبرز للعلن رافضة كل تشويه. حقائق عن قرطاج العظيمة، تعلنها المؤرخة وعالمة الآثار الأمريكية إيف ماكدونالد، الأستاذة المحاضرة الأولى في التاريخ القديم بجامعة كارديف، في كتابها الجديد “قرطاج: تاريخ جديد لإمبراطورية قديمة”،( Carthage: A new history of an ancient empire)، الصادر عن دار إيبري برس (Ebury Press)، بتاريخ 07 أوت 2025، خلال 368 صفحة، لتصحيح هذه الصورة وإزالة آثار الدعاية الرومانية عن حضارة قرطاج المتقدمة مستندة إلى أدلة أثرية وعلمية واضحة. كما ينتظر بيعه سنة 2026 على منصة أمازون.
وقد استعرضت الصحافة العالمية هذا الكتاب، ومنها صحيفة “ذا تايمز” في عددها بتاريخ 30 جويلية 2025، والتي وفق ما نشرته تبدأ ماكدونالد في كتابها بتفنيد الادعاءات التاريخية والمغالطات التي نسبها المؤرخون الرومان لقرطاج. وتبرز بشكل واضح أن قرطاج لم تكن أبدا أدنى مستوى من روما في التقدم الحضاري، بل على العكس من ذلك، فقد كانت تتمتع بقدرات تكنولوجية متطورة في صناعة الحديد والفولاذ، وهو ما أكدته نتائج التحليلات الأثرية الحديثة.
وتسلط ماكدونالد الضوء على التطور السياسي المبكر لقرطاج، والذي يعود للقرن السادس قبل الميلاد، حيث تبنت نظاما سياسيا يقترب من مفهوم “الجمهورية”، التي تضمنت مجلس شيوخ وحكام منتخبين لفترات محددة، وهو تأكيد على وجود ديمقراطية التي لم تكن شائعة في تلك الفترة.
وفي مجال الاستكشافات البحرية، تعرض ماكدونالد رحلة حنون الشهيرة في القرن الخامس قبل الميلاد، والتي وصلت إلى سواحل غرب إفريقيا. فهذه الرحلة تبقى دليلا قويا على الإمكانات البحرية الهائلة التي كانت تتمتع بها قرطاج.
أما إحدى أبرز القضايا التي تناولها الكتاب، فهي مسألة التضحية البشرية التي ألصقت بالقرطاجيين، خاصة ما يتعلق بالتضحية بالأطفال. وتوضح ماكدونالد أن هذه المزاعم، التي تم ترويجها بشكل خاص عبر الروايات القديمة، غير مدعومة بأدلة أثرية حاسمة. وتبين المؤرخة أن ما تم العثور عليه هو مقابر فردية لأطفال، وليس مقابر جماعية، مما يثير الشكوك في صحة الروايات التاريخية التي قدمها المؤرخ الروماني ديودور.
وتؤكد ماكدونالد ضرورة التعامل مع المصادر التاريخية بحذر، لا سيما المصادر الرومانية مثل بوليبيوس، الذي كانت له علاقات مع أسرة سكيبيو الرومانية التي نافست عائلة بارقا القرطاجية بقيادة القائد الشهير حنبعل. وحنبعل، وفق الكتاب، شخصية عسكرية استثنائية حققت انتصارات مبكرة باهرة ضد روما، خاصة في معركة كاناي، لكنه في النهاية لم يتمكن من حسم الحرب لصالح قرطاج بسبب استراتيجية الاستنزاف التي اتبعها الرومان.
ومن الجوانب التاريخية المهمة أيضا التي تتناولها ماكدونالد، قصة تأسيس قرطاج بواسطة الأميرة الفينيقية عليسة، التي تصفها المصادر القديمة بأنها شخصية قوية ومستقلة رفضت تسليم السلطة لرجل، ما يعكس دلالة مهمة حول وضع المرأة في المجتمع القرطاجي القديم.
كما تتناول المؤرخة بالتفصيل المراحل الأخيرة من تاريخ قرطاج، مركزة على الحروب البونيقية الثلاث مع روما، وخاصة الحرب الأخيرة التي انتهت بتدمير كامل لقرطاج عام 146 قبل الميلاد. تصف ماكدونالد هذه الواقعة بأنها كانت أقرب لما نعتبره اليوم إبادة جماعية، وبالتالي فقد عاشت قرطاج أول إبادة جماعية في التاريخ، كما تم استعباد حوالي 50 ألفا من الناجين، ودمرت كل معالم المدينة ومكتباتها وتراثها الفكري، باستثناء كتاب واحد هو الدليل الزراعي والخمري لـ”ماغو”، المكون من 28 مجلدا.
في ختام الكتاب، تؤكد ماكدونالد على ضرورة إعادة قراءة التاريخ بعين نقدية ومتحررة من الصور النمطية والابعاد السياسية، مشيرة إلى أن التاريخ حتى وان كتبه المنتصرون فان الكشف عن الحقيقة واجب وان تطلب جهودا كبيرة للتخلص من رواسب التزييف والدعاية الكاذبة.
من هذا المنطلق، يعتبر هذا الكتاب مرجعا مهما لفهم قرطاج بعيدا عن التضليل، ومساهمة قيمة في إعادة الاعتبار لتاريخ هذه الحضارة العريقة، وعلى الباحثين والمؤرخين والتونسيين خاصة الغوص والتعريف قرطاج بناء على الأدلة العلمية والأثرية الواردة فيه ومواصلة قراءة التاريخ على وقعه .
فاستعادة صورة قرطاج الحقيقية ليست فقط إعادة إنصاف لحضارة ظلمها التاريخ، بل هي مسؤولية التونسيين اليوم في إعادة الاعتبار لجذورهم الحضارية ولهويتهم من أجل بناء المستقبل.
* تم نشر هذا المقال في موقع رياليتي اون لاين بالعربية بتاريخ 21 اوت 2025






