قراءة تحليلية في ق ق ج تحت عنوان “انتهاك” للإعلامية الأديبة إلهام عيسى /سوريا
بقلم الناقدة سعيدة بركاتي /تونس
النــــــص
انتهاك
سأل الطفل أباه :
لماذا نزحنا من مزلنا وهو ميراث من جدي؟
– لأننا نحيا في الضفة الأخرى خارج قانون كوكب ٠
دس يديه في جيبه يتحسس منديله المبلل عرقا، يسأله بصوت مختنق:
مَ بك ترتجف هل تعتريك قشعريرة الفقد والحنين ؟
– الطفل يجيب بعوفيته المعهودة؟
: ( سنبقى إذا رحالة على هذا الكوكب ) ؟
قبل البداية كلمة “انتهاك” مرتبطة ارتباطا وثيقا بكل عمل بشع و ضد الإنسانية و الأعراف ؛ كانتهاك الأعراض و الحرمات و الأماكن المقدسة و الكرامة … فهي مقترنة اقترانا وثيقا و وطيدا بالهتك و التدنيس و السطو و الإستيلاء و السرقة و الإغتصاب و المصادرة …
انتهاك :اسم و مصدر من فعل انتهك
انتهاك المقدسات :التعدي عليها و خرقها بما لا يسمح القانون
انتهك عرض فلان : بالغ في شتمه
و انتهك الشيء : أذهب حرمته والانتهاكات عديدة كانتهاك اليهود المساجد و الأماكن المقدسة : دنسوها و لم يحترموا حرمتها ( من معجم المعاني)
فما هو الشيء الذي وقع انتهاكه في هذه القصة ق ج ؟
الصورة : نزوح من ضفة أخرى إلى خارج قانون الكوكب /سياسة التهجير نزوح غير إرادي :سؤال الابن لوالده :لماذا نزحنا ؟ سؤال عفوي من طفل لبيب بأن البيت الذي كان يقطنه هو ميراث جده. الطفل يتمتع بالفطنة و إشارة مضيئة أن هذا البيت ملكه : هو ميراث جده .
في صورة تشبه هذا المشهد لمحمود درويش في قصيدته المؤثرة حين سأل : إلى أين تأخذني يا أبي ؟
أجابه : إلى جهة الريح يا ولدي …
يطرح السؤال نفسه : ما هي الرسالة التي تحملها هذه القصة ؟
في وقتها و آنها بكل ما احتوته من مشاهد مكثفة ، بكل أسئلتها المعلقة و أجوبتها المبهمة كانت هذه القصة .
مباشرة مع السؤال الأول عن “النزوح” ؟ و معنى نزح في المعاجم العربية : نزح /نزح إلى / نزح عن : البئر : أفرغها حتى قل ماؤها
و نزح الشخص عن دياره : أبعده عنها : نزح قهرا : و هذه هي الصورة في النص :فسؤال الابن كان عن وعي و عن ثقة في النفس :النزوح من منزل هو ميراث /اشارة إلى الأرض الأم و البلد الرؤوم ، و الأهم إشارة إلى الهوية و مسقط الرأس ، و في السؤال المعنى المخفي : لماذا أرغمونا على النزوح رغم البيت بيتنا و الأرض أرضنا ؟: هي حق شرعي و ميراث أجداد.
فكان الجواب من الأب : مبهما و كأنه يقول له : نحن ذاهبون إلى المجهول /لأننا نحيا في الضفة الأخرى خارج قانون الكوكب : هي ضفة اعتدنا سماع الأخبار عنها و ما يجري فيها و رحى الحرب و دورانها (الضفة الغربية و قطاع غزة) ، فالرحلة من ضفة أخرى إلى ضفة اخرى مجهولة / كان باستطاعته الاجابة بكل بساطة : مضطرون للمغادرة ،لكن أردف جوابه بــ:نحيا في الضفة “الأخرى”، و فعل نحيا من الحياة ، فالضفة الأخرى هي النبض بالنسبة لهما لكنها خارج قانون الكوكب : أ هو كوكب الارض؟ (الحبكة و الدهشة في القصة ).
تتغير الصورة من سؤال و جواب إلى وصف الحالة :دس يديه في جيبه يتحسس منديله المبلل عرقا ،يسأله بصوت مختنق : (بدأت الحيرة عند المتلقي).
في حركة “دس يديه” أولا هو بحث عن الدفء و كأن أطرافأصابع يديه بردت ، كان بها الأديبة استعمال فعل أدخل ، لكن فعل دس مع تحسس اقترنا ليصفا بعض الضياع الذي يعيشه الوالد و من يتحسس الشيء بيده فهو يحاول التعرف عليه ، الوالد يعيش قهرا ؛ فقد “كان” استعمل منديله قبل أن يتحسسه للمرة الألف : المنديل مبللا عرقا : نسي في أي جيب وضعه /يتحسسه : يبحث عنه : ” كما تحسس والد درويش مفتاح البيت و أعضاءه و هما يعبران سياجا من الشوك ” . هذا الفعل تأكيد لحالة الشتات عند النزوح فهو شديد التأثر :ربما المرة الأولى التي يجرب فيها معنى النزوح ” لنا عودة عند التقدم في القراءة “، كان صوته مختنق :كمن يشتث فعلا من جذوره ،فالسؤال لم يخرج من حلقه كما ينبغي : صوتا مخنوقا : صعوبة في الكلام و أكيد مع حجرشة و لوعة تحرق وجدانه على فراق أرضه الأم ، عاجزا متأسفا على ابنه الذي سأله مثل هذا سؤال ،ربما اعتبره سؤال لائم : كيف تترك البيت يا أبي وهو ملكنا موروث أجداد ؟
قاسي جدا قانون هذا الكوكب : بدأت تتضح صورة الانتهاك في القصة .
كوكب الغطرسة و الحكم الجائر، ومن بيدهم خيوط تسييره ” القوى العظمى و تبعاتها” ،بريئة هي الارض “كيابسة “من هذا القانون .
مَ بك ترتجف هل تعتريك قشعريرة الفقد و الحنين :
في تفكيكنا للسؤال نرى احتواءه على سؤالين عن الرجفة و عن القشعريرة و كلاهما يكونان نتيجة البرد أو الخوف .
فالسؤال عن الرجفة كان مباشرا ،فقد رأى رجفته بالعين المجردة و كأن جسمه يهتز و يرتعد وحين يرتجف المرء إما خوفا أو فزعا ، فنستدرك أن هذه الرجفة أراد الأب الاستفسار عنها : عما يجول بداخل ولده بسؤال “هل” ،و هل نعرف جوابها جميعا يكون بـــ نعم للتأكيد و الإثبات أو بــ لا للنفي ،لكن هذه الــ “هل” نابعة من ذات الأب ،من إحساسه : هو من يرتجف ،و هو من من اعترته قشعريرة الفقد و الحنين : نستنتج أنها ليست المرة الأولى التي يصيبه هذا الاحساس( جواب عن السؤال أعلاه) “ربما” نزح مع والده و ألقى عليه نفس السؤال فاعتراه نفس الشعور : “سؤال عن تجربة ذاتية “. سبق هذا السؤال حالته كما ذكرت الكاتبة الهام عيسى: /منديله المبلل عرقا /صوته المختنق … المسافة طويلة و أكلته أسنان التعب .
بعفوية كانت إجابة الطفل: سنبقى إذا رحالة على هذا الكوكب : هذه الإجابة العفوية توحي لنا أنه ليست المرة الأولى كذلك ينزح الطفل مع والده ، فعل ” سنبقى” يدل على الإستمرارية كالرحالة الذين يبحثون عن الكلإ و الماء / على هذا الكوكب .
وردت كلمة كوكب مرتين :على لسان الأب حين قال: نحيا خارج قانون الكوكب ، وعلى لسان الطفل :…رحالة على هذا الكوكب ، نستنتج إذا كوكب الأب ليس ذاته كوكب الإبن : كوكب الأب تحكمه قوانين تعسفية تصادر و “تنتهك الحريات و الأماكن الخاصة” تُهجر وتُرغم على النزوح و ترك أرض الأجداد : قانون كوكب الأب يشير إلى تاريخ قديم انطلاقا من اتفاقية سايكس بيكو إلى وعد بلفور الذي نص على تأسيس وطن قومي بفلسطين لليهود إلى حرب النكبة 1948 …
فالقصة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالواقع وما يدور في الضفة الغربية و قطاع غزة و ما يحصل من انتهاكات في الأراضي الفلسطينية ككل من مصادرة أراضي و تهجير و نزوح قسري…أما كوكب الطفل هو هذا العالم اللامحدود الذي يبحث فيه عن نقطة استقرار ليحط رحاله لعله يتخلص و والده من قشعريرة الفقد و الحنين .
يقول المتنبي “وكثير من السؤال اشتياق /و كثير من رده تعليل
ق ق ج كانت أحداثها مكثفة و متدفقة في حركتها انطلاقا من الأفعال الأولى و التي وردت في صغة الجمع :نزحنا/نحيا و هذا اشارة إلى نزوح جماعي ، فهذا سؤال كل طفل فلسطيني ترك طفولته في أرضه الأولى و تحمل مشقة المسافات إلى حيث لا يدري فهو كرحالة من مكان إلى مكان يبحث عن السلام .
فعلا كان الموضوع مرتبط ارتباطا وثيقا بالعنوان أجادت القاصة في الحبكة و تسلسل الأحداث ،كان الحوار بين الشخصيات مكثفا جعل من عنصر الدهشة موجود بعفوية أسئلة الطفل الموجهة إلى والده و فرط تعلقه بأرضه و بيته الأول و إجابته التي فيها شيئا من الاستسلام مع حرقة قوية حين غادر الديار.
أسئلة هذه القصة ق ج نابعة من الاحساس بفقد شيء و ليس أي شيء : فقد أرض و طمس هوية و “كثير من السؤال اشتياق”.
فالذي وقع انتهاكه في قصتنا كل شيء : أحلام طفولة و هوية و أرض و أملاك خاصة و حريات …فلم يبق شيئا لم يُنتهك حتى الانسانية انتهكت .
قصة عميقة المعنى قوية رسالتها : “نتبهوا يا من بيدكم قولنين هذا الكوكب ” إلى ما يحصل بالأراضي الفلسطينية … لم يغب منها الحنين و الاشتياق فأمل العودة للأرض الأم دائما موجود.
بقلمي : سعيدة بركاتي /تونس






