قراءة تحليليّة في المجموعة القصصيّة “الطـّـــوق” للكاتبة التونسيّة فردوس المذبوح
بقلم الناقدة الأستاذة سعيدة بركاتي /تونس
**التّصــــدير:
يقول وليام شكسبير :
يرضع الطّفل من أمّه حتى يشبع ،و يقرأ على ضوء عينيها حتّى يتعلّم …و يأخذ من نقودها …و يسبّب لها القلق و الخوف حتى يتخرّج من الجامعة …وعندما يصبح رجلا ؛يضع ساقا على ساق في أحد مقاهي المثقّفين و يعقد مؤتمرا صحفيّا يقول فيه : “إن المــــرأة بنصـــــف عقـــــل .”
ينتابك فضول و تعتريك رغبة في التّعمّق والغوص في غمار بحور الحرف عند كاتب تقرأ له أول مرّة، فتعيد القراءة مرة و أكثر فتكتشف وقوعك في شراك لذّة الأسلوب القصصيّ و متعة اللغة العميقة و البسيطة في آن واحد.
مجموعة قصصيّة تحت عنوان “الطـّــوق” تجعل المتلقّي ينهيها في جلسة واحدة أو جلستين، مجموعة مستوحاة من صميم الواقع طرحت و عالجت العديد من القضايا خاصّة تلك المتعلّقة بالمرأة و المجتمع ، بقفلاتها المؤلمة والسّعيدة و بعضها بقي يبحث عن نهاية لعلّها في جراب القارئ تنتهي …
فردوس المذبوح هذه القاصّة التونسيّة المجازة في اللغة و الآداب و الحضارة العربيّة كانت قريبة جدّا من أبطال قصصها ،نقلتها لنا عن طريق العين و ما شاهدته و الأذن و ما سمعته و أحيانا عن طريق الحوار الّذي دار بينها و بين الأبطال. جعلتنا نقرأ جزءً من السّير الذّاتية لشخصيّات قصصها. كان حضور المرأة فيها مكثّفا ، وأغلب القصص لم يغب عنها وجودها. تنوّعت القصص بين الطّول و القصر ربط بينها خيط رفيع حرّكت بقية فروعه أنثى بين الاضطهاد و التّحدي بين الاخفاق والنّجاح … فيمكنني بذلك إدراجها ضمن الأدب النّسويّ .
الطّوق :هذا العنوان الّذي يحيلنا مباشرة إلى التّفكير في طوق تضعه المرأة حول جيدها وتتزيّن به لكن في قصص متننا لم يكن طوقا واحدا كما لم تكن أنثى واحدة ..
قصص المجموعة تنوّعت قضاياها بين بطالة وطلاق و” حياة بطعم الحنظل ” و عنف ضدّ المرأة : ” عدت إلى مقعدي و الجملة الأخيرة يتردّد صداها في أذني : يا ابنتي اللي صبرت عمرت ” : و داخلي يضجّ بعديد الهواجس “. قصص رغم قساوتها كانت إلهاما لولادة هذه المجموعة .
في قصّة مثيرة جدّا و حزينة أكثر أبدعت الكاتبة في وصف أحداثها و كأنّها عايشتها بكلّ تفاصيلها : فالفكرة حين تتمكّن من المرء تبدأ بالحفر في “عقله” و تحفيزه على تنفيذها كمن يحفر بمطرقة و إزميل على قطعة رخام من أجل الوصول إلى المعنى : الهجرة السّريّة وركوب قوارب الموت لم تقتصر على العنصر الذّكوري فمساحة الأمل شاسعة جدّا بالنسبة للمرأة و تكون رحبة إن كان معها أبناء قصّر : “سيخصّونك بمعاملة استثنائيّة بما أنّك مرفقة بأبنائك “، لكن حين يصطدم “المغامر” بالواقع يكون الحال خبرا معلنا في وسائل الإعلام عن :”غرق مركب هجرة سريّة وانتشال كثير من الجثث و من بينها جثّة أمّ مرفوقة بأطفالها أصابتها سكتة قلبيّة قبل غرقها .”
الأديبة أبدعت في شدّ المتلقّي للمتن ،تجدك متشوّقا إلى كلّ عنوان و ما احتواه من أحداث ، أجادت جلب انتباه القارئ حتى يعيش أحداث قصصها خطوة بخطوة : تراه ناقما أحيانا، متعاطفا أحيانا أخرى ، متأسّفا ومستسلما ” لقوانين الطبيعة ” حين يُضرب بمعنى الوفاء و الاعتراف بالجميل عرض الحائط أو يتخيّل النّهايات … لكنّ الكاتبة تكسر خطّ تركيزه بتعدّد شخصيّات القصّة كاجتماع أكثر من بطل في القصّة الواحدة .
من القضايا التي أثارتها القاصّة كذلك : الأسرة و انسجامها و ترابطها العاطفيّ و ما تغدقه من حنان في صلب هذا المجتمع المصغّر ، فالحوار لابد أن يكون متواجدا والقبول بالرأي المخالف و الاستماع إلى الأبناء و مشاكلهم ضروريّ. الأسرة هي جزء من مجتمع كبير فإن غابت هذه العناصر فكيف سيكون مآلها؟
أجابتنا القاصّة بكلّ ثقة في أقصوصتها “رمال متحركة” ،حين تركت مربيّة الأجيال ابنها بين يدي معينة منزلية أساءت معاملته “إن لم تسكت سأغلق فمك بملصق “.
كان الطّفل يحتاج إلى جرعة حنان من والديه و إلى ضرورة الانصات إليه ، لكنّهما كانا منشغلين عنه بعملهما فاختلطت الأدوار :أمّ مديرة مدرسة و أب يشرف على إدارة شركة ومعينة منزليّة موكول إليها تربيته ،”طال بحثه عن حضن دافئ يؤويه لكنّ الشّعور الآسن بالوحدة يلازمه دائما ،” إلى أن انتهى به الأمر إلى سرير بمشفى للأمراض النفسيّة .
في طرحها للعديد من القضايا لم تكن المرأة منهزمة دائما بل حالفها النجاح بإصرارها وإثبات وجودها كفرد فاعل في هذا المجتمع رغم معارضة البعض ،كقصّة المهندسة التي لم يلاق مشروع تخطيطها المعماريّ على النسق التّقليديّ ترحيبا من ربّ العمل ثمّ أعلنت لجنةُ الفرز فوزها.
فردوس المذبوح لم تُغيّب الجانب الذكوريّ الحالم بالنّجاح في مجموعتها القصصيّة وتجلّى ذلك في صورة الفنّان الرسّام مرهف الإحساس الّذي يرنو إلى النّجاح و يحلم أن يفوز بإحدى جوائز الابداع في أقصوصة”في انتظار الفجر”.
” ربما” قد أكون ظلمت الطّوق و ما احتوى من أقصوصات ،فالمجال مفتوح للقارئ و لن يندم أبدا عن قراءته وكما ذكرت قضاياه من صميم الواقع ،تشتدّ أحيانا و تنفرج أحيانا أخرى . أقصوصة الطوق الّتي حملت عنوان الكتاب : عالجت قضية التّعارف عن طريق منصّات التّواصل الاجتماعيّ (و ليست الأقصوصة الوحيدة التي تعرّضت إلى مثل هذه العلاقات في الواقع الافتراضي …) من طوق ذهبيّ أُحاط برقبة الشّخصيّة وأيقظ انوثتها المدفونة منذ خمسة و ثلاثين عاما إلى طوق سجن دخلته عن طواعية، أطفا نور ابتسامتها و قبر ما تبقّى من أنوثتها في بلاد الغربة مع رجل لا يعرف معنى للمعاملة الانسانيّة حواره الوحيد العنف و احتقار لشخصها . ربّما أرادت القاصّة أن توحي إلينا باستراتيجية كتاباتها في هذه المجموعة و تعلمنا أنّ المرأة هي ضحية فاعلة و مفعول بها .
طوق الكتاب كان يبحث عن مفتاح اسمه الحريّة و الانعتاق و التّحرر في نطاق الحدود : من خلال الطّفل الّذي قتل عصفورا ولوى عنقه باحثا عن حريّة مكبوتة حين رأى الأسف في عيون والديه ، من خلال معينة منزليّة تُرغم ابنتها على تحمّل غطرسة و عنف زوجها، من خلال هروب امرأة من زوج عنيف دفعها دفعا إلى الإبحار في مركب الموت لتجد نفسها صحبة أطفالها لقمة لحيتان الغميق ، من خلال بنت ريفيّة ألقت بعيدا بتقاليد بلدتها وهربت من سجن والديها و المجتمع الأبوي ككلّ …
و طوق آخر وجد فعلا مفتاحه في نجاحات المرأة بتحديها كلّ الصّعوبات حتّى تثبت وجودها في هذا المجتمع بفضل ما تلقّته من علم …
طوق كان مغلّفه لوحة رائعة غاب فيها “الطّوق” إلّا من المعرفة ،أنثى تنهل من العلم في جلستها المستقيمة و المنكبّة على كتبها ليقينها أنّه بالعلم و المعرفة ترتقي و تتحرّر من كلّ القيود و تتحدّى جبروت هذا المجتمع الذّكوري الّذي لا يعرف لغة الحوار إلّا برفع يديه عاليا من أجل العنف. ألوان الغلاف هادئة كالهدوء و السّكينة الّلذين تبحث عنهما كلّ أنثى تتوق إلى الاستقرار سواءً في حياتها مع أهلها أو مع زوجها ،غلاف رسالته قوية جدا : أنّ المرأة على استعداد أن تترك كلّ شيء وراء ظهرها عدا العلم و الّنهل من المعرفة و هذا أقوى سلاح تحمله لتواجه به مصاعب الحياة . لوحة غلاف تناغمت فعلا و محتوى الكتاب …
فردوس هذه الأديبة كانت مع الحلول العمليّة ، ككلّ إمرأة واعية ضدّ هذا العنف المسلّط على المرأة ، فلا بد من مناهضته و التّصدي له بالقانون .
رأيي الشّخصي في المجموعة القصصيّة :
حين تمسك متنا و تجد أولّ أقصوصاته تتحدّث عن القضيّة الفلسطينيّة في مشهد حركيّ عن التّهجير و النّزوح القسريّ لعائلات تركت الأرض الرؤوم ، ترى فيه حجم المعاناة الذي تعانيه المرأة الفلسطينيّة عندما يتركها زوجها “مُرغما” و يهاجر و لا تجد من لقمة تسدّ بها جوع أبنائها (إن توفرت)غير “أرغفة بالزّعتر وجبنا و زيتونا “، مشهد انتهى بغارات من طائرات العدوّ … فتأكّد أنّ الكاتبة مؤمنة ككلّ تونسيّ و كلّ إنسان حامل للقضيّة الأولى ومساند لها و أن قلمها لن يكفّ يوما عن الكتابة لأجل فلسطين و أطفالها …
مجموعة حاورت الزّمن والدّهر ، جعلت دمية بلاستيكيّة لعرض الأزياء تبوح بما يخالج نفسها و تنقل لنا صورا من الرّصيف المقابل في رسالة “كل شيء له تاريخ نهاية صلوحيّة “. القاصّة في مجموعتها ككلّ كاتب عموما إذا آمن بمهمّته الانسانيّة أضاء و فجّر ولو بنسبة قليلة قضايا تمسّ المجتمع مباشرة .
كاقتراح شخصيّ :لو تقع هذه المجموعة بين يدي سيناريست يؤمن بهذا الإبداع لجعل منها سلسلة تتحدّث عن قضايا مجتمعنا النّابعة من واقعنا ،مجموعة مدجّجة بصور من الحياة ،فقضايا المجتمع و الإنسانية عامّة لا بدّ لها أن تنتشر و تعالج على نطاق واسع حتى لا تبقى سجينة الورق و الرّفوف …
ربّما لم أوفِ المجموعة حقّها من القراءة والتّحليل حتّى أترك المجال للمتلقّي ليكتشف خباياها و كي لا أسقط في التّلخيص.
أقرّ أنّ لغة المجموعة القصصيّة بسيطة خالية من التّعقيد لم تخل من الوصف و لا من المفردات العميقة التي تدل على تمكّن الأستاذة من اللغة العربيّة (هذا بحرها و تجيد السّباحة في أعماقه) ؛فالوصف و التّعمق في التّفاصيل هما أداتان تجعلان “النّصّ” القصصيّ حيّا متحركّا ، ويكون إيقاع جرسه الفنّي قويّا فينجذب إليه المتلقّي و يتفاعل معه.
” فالتّفاصيل دائما هي الّتي تحكي القصّة والكاتب مسؤول أمام القارئ أن يعتني جيّدا بسرد القصّة حتى لو تسبّب الأمر له بالدّوران .”
يقول” فرانسيس بيكون” : القراءة تصنع انســـانا كاملا ، و المشورة تصنع انســـانا مستعدّا ، و الكتابة تصنع إنســـانا دقيقا .”
بقلمي سعيدة بركاتي /تونس






