نرجس والنرجسية
بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳
اشتقت إليك حتى كرهتك! (قهقه عاليًا) دمرتِ حياتي وزعزعتِ كياني! (ضحكت باستهزاء) صرتِ كابوسًا يطاردني في كل حين!
(مقاطعة بصوتها الحنون ونبرتها العذبة) لا تقل هذا يا خالد… لا شيء يستحق كل هذا الألم.
(مقاطعًا بعصبية واستنكار) خالد؟! أتهزئين بي؟ (ضاحكًا بصوتٍ عالٍ) لماذا تفعلين بي هذا؟ هل قصّرتُ معك؟ ألم أكن صادقًا، مخلصًا، وفيًّا؟ أغدقتُ عليك المال والعاطفة؟
(بكل ثقةٍ وهدوء) أنصت جيّدًا… لم أفعل شيئًا، كلّ ما في الأمر أني اخترتُ الانسحاب، الاختفاء قليلًا لعلّك تراجع نفسك، تنقدها وتُصلحها. لكن يبدو أنك ما زلت على حالك… للأسف.
قطعت المكالمة مباشرة، وحظرت رقمه في الحال، وكذلك حساباته على كل المنصّات.
أغلقت الأبواب في وجهه دون تردّد، وهي تقول في أعماقها:
“الآن يمكنني التصالح مع نفسي بعد أن قمت بما يجب القيام به. منحته فرصًا لا تُحصى، أهدرها جميعًا ببلادةٍ وغرور. أحبه، نعم، لكن لا أستطيع أن أبني مستقبلي على رمالٍ من الشكّ والتملّك.”
أما هو، فبقي مصعوقًا، جامدًا في مكانه لا يصدق ما حدث.
يحاول الاتصال بها من هنا وهناك دون جدوى، يهذي، يتصبب عرقًا، يخفق قلبه بقوة، يرتعش جسده، يجد صعوبة في التنفس وابتلاع ريقه…
وفجأة، استعاد صوتها القديم في مقهى المدينة العتيقة، منذ ما يزيد عن شهرين، على أنغام أم كلثوم: «حبّ إيه اللي إنت جاي تقول عليه».
كانا يومها يجلسان في زاوية شبه معزولة، تحيط بهما روائح القهوة القديمة، وأحاديث العشّاق المتناثرة في الفضاء.
تذكّر كيف تغيّر وجهها فجأة، وكيف احتدّ الكلام دون مقدّمات بعد أن كان يفيض حنانًا وودًّا.
قالت له حينها بنبرة مثقلة بالوجع:
“لقد اختنقت يا خالد… تصرّفاتك، أقوالك، أفعالك، شكوكك، ظنونك، تجسّسك المتواصل… كلّها أرهقتني وأمرضتني حتى لم أعد أحتمل. كرهت حبّك، سئمت قربك، أوجعني قلبك وعقلك، حاصرني نفسك. ما تفعله ليس حبًّا، بل تملّك، أنانية، رغبة في السيطرة. أنا لست شيئًا يُقتنى ولا وطنًا يُستعمر!”
ثم نهضت وغادرت المكان، تاركةً وراءها فنجان قهوتها نصف ممتلئ، ورائحة من الكبرياء لا تزول.
ومنذ ذلك اليوم، ظلّ خالد يبرّر كل شيء لنفسه: أنه يحبّها أكثر من اللازم، وأنها لا تفهمه، وأنها تبالغ… حتى جاء الاتصال الأخير، ليضع حدًّا نهائيًا لكل أوهامه.
جلس على سريره مأخوذًا بالذهول، يهمس لنفسه:
“هل كرهتني فعلًا؟ هل بدّلتني بآخر؟ هل كانت تتسلّى بي؟ أم أني أنا من خنقها بحبٍّ أعمى؟ أربع سنوات وأنا أقدّم قلبي بين يديها… فهل أضاعته هباءً؟”
لكنه لم يسأل السؤال الأهمّ:
هل كان يحبّ نرجس حقًا، أم كان يحبّ ذاته من خلالها؟
هل كانت مرآته التي يرى فيها مجده الذكوريّ وجرحه القديم؟
هل كانت “نرجس” ضحية قلبٍ لم يعرف من الحب إلا ما يُشبع غروره؟
لم يكن خالد يدرك أنّه كان يطارد ظلّه، لا محبوبته، وأنّ ما أسماه حبًّا لم يكن سوى نرجسية متقنّة في ثوب العشق.
لقد خنق الزهرة وهو يظنّ أنه يسقيها.
وفي لحظة وعيٍ خاطفة، نظر إلى شاشة هاتفه المطفأة، فرأى وجهه ينعكس عليها كمرآةٍ سوداء، وقال في صمتٍ متهدّج:
“كانت نرجس… وكانت نرجسيّتي.”






