بياع كلام
****
حديثكُ معي،
كُلّ الوعودُ التي
عَاهدتني، مع الفجر
سَاحتْ في ثواني
كمْ كان حديثكَ
مَطليّ بالزّبدة!
يا زئبقي الهوى
يا واسع المعاني
المْ تَقُلْ أنّكَ
يَمّمت قلبك نحو أعيني
ألَمْ تَقُل انّك لن تنساني؟
ألَمْ تُقسم برأسي ، بحياتي
انّك تَموت وَترفع راياتي
و انّك تسبّح اسمي عاليا
فوق رُكام المباني
يا جاحدا نعمتي
ودفء اجفاني
حذاري من لهيبي
من طيبتي
من طوفاني…
بَيّاعُ كلام انتَ،
عَربيّ
من سراب الصّحاري
دُمت تَسقِيني
مُذ سالف الازمانِ
ما عَاد زيفك يَنطلي
يا عاشقًا للنّفط دُون دمي
يا هاربًا من ساحة الميدانِ
نصرالعماري
فيما يلي تحليلٌ أدبيّ وبلاغيّ
ونَفسيّ للنصّ — نصّ مكثّف، غاضب، نابض بالاستعارة، ينهض على موسيقى داخلية متوترة ويجمع بين العاطفة والاتهام والخطاب الوجودي.
🔵 أوّلًا: الانطباع العام
النصّ قصيدة عتاب حادّ، تتخذ شكل مونولوغ مخاطِب لطرف خائن أو متراجع عن عهوده.
لكنها تتجاوز العتاب العاطفي إلى خطاب رمزيّ عن خيبات الإنسان العربي، الوعود، الزيف، الانكسار، والهروب من المواجهة.
هي ليست مجرّد شكوى حُبّ… بل صرخة تُحمّل الآخر مسؤولية جرحٍ جمعيّ.
🔵 ثانياً: البنية الموضوعية
يمكن تقسيم النصّ إلى ثلاث وحدات:
1) وحدة الوعود الزائفة
> “كُلّ الوعودُ التي عَاهدتني… سَاحتْ في ثواني”
صورة الانصهار سريعة ومباشرة: الوعود ذابت مثل شمع.
> “مَطليّ بالزّبدة!”
تشبيه ذكيّ يوحي بالنعومة الظاهرية والذوبان السريع، وبالخطاب المعسول الذي لا يصمد.
2) وحدة التحوّل من العشق إلى الاتهام
يتحوّل المتكلم من الاستسلام للمحبوب إلى فضحه:
“زئبقي الهوى” (صورة للحبيب المتفلّت، المتغيّر)
“يا جاحدًا نعمتي”
“حذاري من لهيبي… من طيبتي… من طوفاني”
هنا يظهر صوت المرأة القوية التي تستعيد سيطرتها.
إنّه انتقال من الجرح → الغضب → التهديد.
3) وحدة الرمز السياسي — العربي والنفط والميدان
أقوى مقطع في النصّ:
> “بَيّاعُ كلام انتَ، عَربيّ من سراب الصحاري”
“يا عاشقًا للنّفط دون دمي”
“يا هاربًا من ساحة الميدان”
هنا يقفز النصّ من هوية “العشيق الخائن” إلى رمزية العربي المتهرّب من النضال، الباحث عمّا هو ماديّ، المتقاعس عن الفعل، المشتعل بالوعود لا بالتضحية.
إنّه إسقاط نفسيّ وسياسيّ على صورة العاشق.
🔵 ثالثاً: الخصائص البلاغية
1) الاستعارات المكثّفة
“زئبقي الهوى”: الحبّ الذي لا يستقر.
“ترفَع راياتي فوق ركام المباني”: الحبّ كحرب، كإعادة بناء.
“حذاري من لهيبي… من طوفاني”: ذات متوهّجة ومخيفة في لحظة غضب.
“سراب الصحاري”: وعود بلا حقيقة.
2) التكرار الإيقاعي
التكرار المقصود لــ “ألم تقل… ألم تقسم…”
يصنع محاكمة لغوية، أشبه بمحضر استجواب عاطفي
3) موسيقى الحروف
هيمنة حرفي السين والصاد تعطي صفيرًا يوحي بالغيظ والانكسار:
ساحت، ثواني، سراب، صحاري، تَسقِيني، سالف…
كذلك حضور حرف القاف في لحظات الحسم والإدانة:
تقُل، يمّمت، لن تنساني، تَموت…
🔵 رابعًا: التحليل النفسي
النصّ ينطلق من حالة:
الجرح + الكبرياء + الوعي
ثمة صراع بين:
نفس محبّة كانت تؤمن بالوعود
ونفس ناضجة اكتشفت الزيف
ونفس غاضبة ثائرة قررت المواجهة
الحبيب هنا ليس فردًا، بل “نموذج”.
يُمثّل:
الرجل الشرقي المراوغ
الكائن الذي يَعِد ولا ينفّذ
الذي يهرب من الصدق والميدان
وتستغله المرأة في النصّ كمرآة لخيبتها لا كذاتٍ مستقلة.
🔵 خامسًا: التقييم الفني
النصّ قويّ، متماسك، فيه: ✔ كثافة لغوية
✔ صور مبتكرة
✔ انتقالات دلالية ناجحة
✔ غنائية داخلية
✔ جرأة في ربط الحب بالهوية والخيبة القومية
أجمل الأسطر:
“يا عاشقًا للنفط دون دمي”
جملة حدّية، موجعة، تختصر فكرة “العربي الجديد” الذي فضّل الثروة على الكبرياء.






